كان من الطبيعي أن يتوقف المراقبون عند تصريحات الرئيس المصري التي أدلى بها بعد وقت قصير جدا من مقتل الجنود المصريين في سيناء، والتي اتهم من خلالها جهات خارجية بدعم المنفذين، في إشارة واضحة إلى قطاع غزة. حدث ذلك قبل أن تتوفر أية معلومات عن العملية، اللهم إلا أعداد القتلى والجرحى. لا يمكن بأي حال المرور مرَّ الكرام على توجيه اتهام من هذا النوع، لا سيما أن عاقلا لا يمكنه تمرير نظرية أن المنفذين -فضلا عن الدعم اللوجستي- قد جاء أو جاؤوا من قطاع غزة، وذلك لأسباب أهمها حرص حماس الشديد على عدم إغضاب النظام المصري في هذه المرحلة تحديدا، فضلا عن عدم وجود أية مصلحة لحماس في استهداف الجنود. كما أن حماس ليست من السذاجة بحيث لا تدرك أن شيئا كهذا لن يطيح بنظام السيسي المدعوم عربيا ودوليا ولديه قدر لا بأس به من الدعم الداخلي الشعبي، فضلا عن سيطرته على الإعلام والقضاء والأمن والجيش، بل لعل عمليات من هذا النوع تفيده من الناحية العملية، إذ تحرف الأنظار عن ملامح فشله على كل صعيد، كما تخفف من حدة الانتقادات الخارجية التي توجه إليه على صعيد انتهاكات حقوق الإنسان التي تجاوزت أسوأ العهود السابقة منذ مرحلة عبد الناصر. حماس بدورها تراقب السلفيين الجهاديين في القطاع ممن يمكن أن يفكروا في أمر كهذا، ثم إن القطاع يستورد السلاح ولا يصدره، كما أن الحدود مراقبة والأنفاق مغلقة، فيما صار لفتح والسلطة حضورهما الواضح، إن بشكل رسمي أم غير رسمي (الأخير بقي موجودا طوال الوقت). بعيدا عن نظرية المؤامرة في تفسير استهداف الجنود الذين تستحق عائلاتهم التعزية، فهم الذين لا ذنب لهم في واقع الحال في سياسات النظام الدموية، إن كان في سيناء أم في عموم الداخل المصري، وهم في الغالب من أبناء الناس البسطاء. بعيدا عن تلك النظرية، فإن المرجح أن جماعات سلفية جهادية هي التي نفذت العملية (أنصار بيت المقدس، أو أجناد مصر)، وهذه لا تنكر عملياتها، بل تعلن عنها بكل صراحة، والأرجح أن تفعل ذلك هذه المرة أيضا، وربما بثت شريط فيديو أيضا. وفي حين يبدو الانسداد السياسي في مصر عاملا فاعلا في تفجير العنف، وضمِّ المزيد من الشبان إليه، بخاصة في ظل جاذبية الظاهرة الجهادية للشبان عربيا في ضوء ما فعله تنظيم الدولة والحرب العالمية عليه، فإن حالة سيناء سابقة على ذلك ولا يقل عمرها عن عشر سنوات، أي أنها عاصرت مبارك، وعاصرت مرسي في فترته القصيرة، وإن تراجعت بسرعة نظرا لكونه الوحيد الذي ذهب نحو المنطق الصحيح في معالجتها ممثلا في الاعتراف بالمظالم التي يتعرض لها أهالي سيناء، فيما رأينا بعده الطائرات تقصف بلا حساب وتقتل المدنيين بشكل عشوائي، كأن الجماعات الجهادية جيش له ثكنات (الإجراءات الجديدة تبدو أسوأ). نأتي إلى ما يريده السيسي من قطاع غزة عبر اتهامه (اتهام حماس من الناحية العملية وليس ما يسمى حكومة الوحدة) باستهداف الجنود، وهنا نقول بالفم الملآن إن اتهامه (أي السيسي) المباشر لحماس، وتبعا له إعلامه، وحملة التحريض عليها إنما يشكل مقدمة لتلبية الشرط الذي يبدو أن السيسي قد تكفّل به لنتنياهو ممثلا في نزع سلاح حماس وقوى المقاومة. إن الاتهام المذكور ما هو إلا مقدمة لجعل نزع السلاح شرطا للتعاون في معبر رفح (الذي أغلق حتى إشعار آخر)، ومن ثم التعاون في إعادة الإعمار، وهو الأمر الذي يتواطأ معه محمود عباس بالكامل، الذي سبق أن قال في القاهرة إن حكومة الوحدة تعني سلاحا واحدا للشرعية، تماما كما هو الحال في الضفة الغربية. إنها المؤامرة التي يريدها أيضا ممولو الانقلاب، والذين يعتبرون ملاحقة حماس ونزع سلاحها جزءا من مطالبهم، وهم بالتأكيد يجاملون نتنياهو الذي لا يكف عن تقديم الشكر لهم، والإشادة بجهودهم، فضلا عن التعامل مع حماس كجزء من "الإسلام السياسي" الذي يطاردونه على كل صعيد. إنها ذات المؤامرة على سلاح المقاومة، لكنها تستخدم اليوم دماء الجنود المصريين كسلّم لتحقيق أهدافها، وهذه المرة بقوة دفع من قطاع من الشارع المصري الذي يتعرض لحملة تحريض جديدة ضد حماس تذكِّرنا بالأسابيع الأولى للانقلاب، وبمرحلة عدوان الصهاينة على قطاع غزة نهاية 2008، وبداية 2009 أيام المخلوع. وها إن المنطقة العازلة التي يجري إنشاؤها تأتي لتؤكد هذا الهدف الذي نتحدث عنه بكل وضوح. كيف ستتصرف حماس في مواجهة ذلك؟ هذا هو السؤال. إذ يجب أن تتفاهم مع كل القوى والشخصيات الوطنية في الداخل والخارج على إنشاء تحالف موسع هدفه التصدي لهذه المؤامرة التي تريد نزع سلاح المقاومة وضم القطاع إلى الضفة في لعبة التنسيق الأمني والتفاوض البائسة. نعم يجب أن تتصدى لذلك، ولو أدى الأمر إلى فرط ما يسمى بحكومة الوحدة، لا سيما أننا نتحدث عن تحالف لا يهدف فقط إلى إنقاذ السلاح في قطاع غزة، بل يهدف إلى إنقاذ القضية من التصفية على يد عباس والسيسي والتحالف العربي من ورائهما، وذلك عبر مسار لن يفضي إلا إلى دولة في حدود الجدار تغدو في حالة نزاع حدودي مع جارتها يُترك أمر البت فيه إلى المؤسسات الدولية!! ما ينبغي أن تفعله حماس وقوى المقاومة هو قلب الطاولة في وجه عباس ومساره، والسيسي ومخططه، إذ إن مقايضة إعادة الإعمار وفتح معبر رفح بنزع سلاح المقاومة لا يمكن أن يكون مقبولا بأي حال، ليس لأجل القطاع وحدده، وإنما لأن المؤامرة تطال القضية وتهدد بتصفيتها كما أشير آنفا.