تبدأ أولى ملامح البعد الدولي في شخصية علال الفاسي( تولد 1910) منذ يوم قاد الجماهير الشعبية المغربية متصديا للسياسة الفرنسية في المغرب اثر إصدارها الظهير البربري في 16/5/1930 ، وتعرضه للاعتقال وإصرار الجماهير المغربية بأعتصاماتها وتظاهراتها على المطالبة بإطلاق سراحه ، وهو ما تحقق ، فأصبح علال شخصية محبوبة من الشعب وتحول علال إلى رمز وطني يقود النضال ويتحدى الاستعمار الفرنسي ويطالب شعبه بخوض المعركة ضد القوى الاستعمارية .وبذلك تمكن علال الفاسي بقيادته للتظاهرات ومحاضراته ( عالم دين وأستاذ جامعي) في جامعة القرويين والمدارس الأهلية ان يعيد غرس مفهوم الوطنية في نفوس الشعب وان يجعلها مفهوما شعبيا في مرحلة تاريخية عصيبة من تاريخ المغرب المعاصر ، لاسيما بعد ان تمكن الاستعمار الاسباني والفرنسي من القضاء على ثورة الريف في شمال المغرب عام 1926 والتي سجلت إخفاق المقاومة المسلحة . في وسط هذه الأجواء استمر علال الفاسي في قيادة جماهير الشعب وفي التصدي لمواجهة المستعمر الفرنسي رغم كل إجراءات المتابعة والمضايقة التي اتخذت ضده . وفي عام 1937 أعلن مفاجئة شكلت تحديا لسلطات الإقامة الفرنسية تمثلت بتأسيس الحزب الوطني لتحقيق المطالب – بعد حلها كتلة العمل الوطني – وانتخب المؤتمر العام للحزب علال الفاسي لرئاسة الحزب، وبهذه الممارسة بذر فكرة الوعي بالديمقراطية ، وقدم الحزب برنامجا جديدا لسلطات الحماية الفرنسية تمثل بالمطالب المستعجلة لتحقيق الإصلاح في مؤسسات الدولة والمجتمع ، وقاد التظاهرات المطالبة بذلك . لم يسبق لفرنسا عام 1937 وهي في أوج هيمنتها ان وجدت شخصية في وعي علال الفاسي ونضجه السياسي ليناقش مشاريعها في المغرب بأيمان ومسؤولية ، ويعارض وجود الحماية ، وبجهد استثنائي استطاع علال ان يوقد شعلة الوطنية في قلب كل مغربي . وهو الذي صنع لنفسه مكانة في نفوس الوطنيين والشعب ألهبت حماس الحركات التحريرية المغربية فيما بعد . وإزاء هذا الحضور الفاعل والمؤثر في مجريات الأحداث ولخشية إدارة الاحتلال الفرنسي في المغرب من تنامي وتعاظم دور علال الفاسي في الوسط الشعبي وانعكاس ذلك على مستقبل تواجدها في المغرب ، أقدمت سلطات الحماية الفرنسية على اعتقاله ونفيه إلى جزيرة الغابون يوم 31/10/1937 ، ومنعت السلطات الفرنسية أي اتصال به بما في ذلك زيارة أهله له في محاولة منها لثنيه عن موقفه الوطني ولإنهاء تأثيره في نفوس الوطنيين والشعب . وكرد فعل على هذا الموقف الاستعماري البغيض عمت التظاهرات مدن المغرب بما فيها مدن الشمال التي كانت تحت الحماية الاسبانية ، وكانت تلك التظاهرات تهتف بحياة علال الفاسي . وفي تونس توقف العمل ثلاثة أيام تضامنا مع شعب المغرب واستنكارا لنفي علال ، و الحال نفسه في الجزائر إذ عمت التظاهرات المنددة بقرار النفي ،وتناقلت وكالات الأنباء الدولية 1-5 اسم علال كرمز من رموز الوطنية المغربية.وبنفيه اعتقدت سلطات الاحتلال الفرنسي إنها حققت مبتغاها ،إلا ان شخصية علال الوطنية وصورته كانت حاضرة لم تغب عند شعب المغرب الذي كان يستذكرها في المناسبات الدينية والوطنية ، فكانت أناشيده الوطنية والدينية تراتيل يرددها الرجال والنساء وحتى الأطفال في كل مناسبة .وكان سبب نفي علال هو موقفه الوطني المتمثل في رفض مسايرة مخططات الاستعمار الفرنسي في المغرب . وفي الغابون وتحديدا سنة 1940، بعد ان انظم الولاة العسكريين إلى نظام الجنرال ديغول (كانت فرنسا مقسمة مابين حكومة فرنسا الحرة برئاسة ديغول وفرنسا فيشي برئاسة الماريشال بيتان )، وجدت حكومة فرنسا الحرة ضرورة ان تفكر في إجراء حوار مع علال الفاسي كونه شخصية وطنية معروفة ومؤثرة في المغرب بعد ان وطأت جيوش ديغول قرية موبلا في جنوب الغابون التي كان يقيم فيها علال الفاسي ، وطلبت منه ان يكتب لديغول شرحا بقضية المغرب وموقفه من فرنسا ، وبعد أخذ ورد ،كان جواب علال :( ان قضية الخلاف بين فيشي وديغول قضية فرنسية محض لا حق لي ولا لسائر المغاربة في التدخل فيها ، نعم فيما يرجع لمقاومة الألمان يمكنني ان أؤكد انه ليس في المغاربة احد يريد ان يصبح محكوما لألمانيا أو ايطاليا على انه من الوجهة المنطقية ما دامت فرنسا قد دخلت الحرب، ومادام في استطاعتها ان تقاوم ، فليس من الوفاء ان تخون حلفاؤها وتلقي بهم في أحضان الألمان، وأما فيما يخص القضية المغربية فأنا كممثل للحزب الوطني اعتبرها قضيتي ، وأنا مستعد للتعاون مع الجنرال ديغول إذا كان راغبا في ان يحقق أماني الشعب المغربي ويجب ان اعرف سياسته تجاه المغرب) . وقد ضمن رسالته لديغول شروحات تفصيلية عن الأوضاع العامة في المغرب والسياسة اللاانسانية التي تمارسها سلطات الحماية في تعاملها مع شعب المغرب والتي تمثل تجاوزا على حقوق الإنسان ومقدرات الشعب المغربي . كانت رسالة علال الفاسي واضحة في معانيها وأهدافها وأكدت ثبات علال الفاسي على موقفه الوطني ، وقد أعتمد الفاسي في شروح رسالته على ماكان يسمعه من الإذاعات العالمية عن الأوضاع في المغرب والعالم بعد أن تعلم الفرنسية بنفسه في المنفى ، وبذلك يكاد يكون الشخص الوحيد في المغرب الذي لا يدين لفرنسا بأي فضل في تكوينه الثقافي (حصل على شهادة عالم من جامعة القرويين عام 1930 ) حتى الفرنسية تعلمها بنفسه في المنفى . بعد ان اطلع ديغول على رسالة علال أوعز بأجراء مفاوضات ثانية معه وأرسل إليه مندوبا آخر ، وبعد التفاوض والحوار مع المبعوث الجديد قبل علال الفاسي التعاون مع فرنسا الحرة ( وحتى التوسط لدى الجزائريينوالتونسيين بشرط واحد وصريح هو ان يعلن الجنرال ديغول استقلال المغرب منذ الآن ) ، وجاء الجواب من ديغول فيما بعد ( درست قضية الفاسي والمغرب وسأحمل الملف معي إلى برازافيل ) . من هنا يتضح بعدا دوليا آخر يتجلى في شخصية علال الفاسي كمفاوض دولي بارع من طراز رفيع مثل وطنه خير تمثيل وكان مفاوضا ندا وصلبا مؤمنا بقضيته، وكانت صراحته في 2-5 الذود عن حرية وطنه سببا في تمديد مدة نفيه أربعة أعوام أخرى قضاها في ظل ممارسات نظام أقسى من سابقه . وكانت نتائج هذه المفاوضات جرس إنذار لفرنسا إذ واجهت فيها لأول مرة مسؤلآ وطنيا يحدد الموقف من مستقبل الوجود الاستعماري الفرنسي في المغرب والتأكيد على المطالبة بالاستقلال ،لاسيما بعد ان تأكدت فرنسا من فشل سياسة القمع والإرهاب التي تمارسها في المغرب من ثني الحركة الوطنية عن موقفها والتي تتخذ من علال الفاسي في المنفى قائدا لها . يتزامن هذا الموقف لاحقا بموقف وطني من داخل المغرب متناغم مع ما ذهب إليه علال الفاسي في مفاوضاته مع ممثل ديغول ، ليعلن قادة الحزب الوطني في 11/1/1944 عن تأسيس حزب الاستقلال وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال إلى الملك محمد الخامس رحمه الله والى الحكومة الفرنسية وسفارات الدول الأوربية وأمريكا في المغرب، واختيار الحزب علال الفاسي رئيسا له. كان هذا الإعلان بمثابة الصاعقة لسلطات الاحتلال الفرنسي في المغرب وفي فرنسا، لاسيما وأن الإعلان عن تأسيس الحزب ومطالبته باستقلال المغرب حظي بمباركة وتأييد الملك محمد الخامس . وإزاء هذه التطورات الداخلية في المغرب والضغط الدولي الذي تواجهه فرنسا ، مما دفع فرنسا إلى تغيير سياستها في المغرب في محاولة منها لتخفيف حدة التوتر ولو إلى حين ، فقررت سنة 1946 استبدال المقيم العام الفرنسي كابريال بيو وعينت خلفا له أريك لابون الذي استجاب لرغبة الملك محمد الخامس والأحزاب الوطنية في الإفراج عن الوطنيين المنفيين في الخارج وفي مقدمتهم علال الفاسي الذي أمضى تسع سنوات منفيا في الغابون . عاد علال الفاسي إلى المغرب عام 1946 ، عودة الفرسان المنتصرين وأستقبل بحفاوة استقبالا شعبيا كبيرا ، وألقى خطابا أثناء استقبال الجماهير له أكد فيه استعداده للتضحية من جديد في سبيل عقيدته والذود عن كرامة وطنه . وفي ذلك تأكيد على حرص وإصرار وتمسك وصدق علال الفاسي في ممارسة دوره القيادي الوطني في خدمة شعب المغرب . بعدها واصل علال الفاسي قيادته لحزب الاستقلال ميدانيا ، لكنه تعرض لمضايقات سلطات الاحتلال الفرنسي مما دفعه إلى الهجرة إلى مصر لاجئا سياسيا مطلع عام 1947 ؛ على ان يتولى من هناك وبالتنسيق مع القيادة الميدانية في المغرب مهمة الأشراف والتوجيه للحزب . وفي مصر أسهم بدور كبير في التعريف بقضية المغرب في مختلف المحافل السياسية والدينية والثقافية والأدبية والشعرية وفي المنتديات العربية والدولية التي أقيمت في مصر آنذاك .وأستطاع ان يوحد عمل الأحزاب المغاربية في مصر ( الجزائر ، تونس ، المغرب ) من خلال تأسيس مكتب المغرب العربي في القاهرة في شباط – فبراير 1947 . وفي مصر وجد علال الفاسي ضالته في مؤسسة الجامعة العربية ، ( تأسست آذار 1945 ) كمنظمة إقليمية تمثل منبرا مهما له حضور دولي مؤثر آنذاك، وكانت وليدا جديدا في عالم العروبة وتحضى نشاطاتها باهتمام وسائل الإعلام العربية والدولية فربط علاقاته مع اللجنة الثقافية في الجامعة العربية وتمكن من خلالها من إيصال صوت المغرب ورافق 3-5 وفودها إلى خارج مصر سواءا إلى البلدان العربية أو الإسلامية أو الأوربية للتعريف بالقضية المغربية وفضح السياسة الاستعمارية الفرنسية في المغرب ومطالبته الجامعة العربية بالإعلان عن بطلان معاهدتي الحماية المفروضة على تونس والمغرب . وأرسل علال الفاسي المذكرات إلى الجامعة العربية ودول أمريكا ألاتينية وأوربا بما فيها فرنسا واسبانيا وهيئة الأممالمتحدة تضمنت هذه المذكرات شرحا للأوضاع في الأقطار المغربية والأساليب الاستعمارية القمعية ضد الشعب ورفضها لمشروع الاتحاد الفرنسي وبذلك جعل علال الفاسي قضية المغرب قضية دولية، وعلى اثر حوادث طنجة التي وقعت بعد الزيارة التاريخية للملك محمد الخامس في 9/4/1947 ،أوفد حزب الاستقلال علال الفاسي إلى باريس إذ التقى بالشخصيات الفرنسية والعربية وأكد على ضرورة استقلال المغرب وتمسكه بعروبته ، كما التقى بالعمال المغاربة والعرب في لقاء ضم (15) ألف عامل من أقطار المغرب العربي الثلاث أكد في خطابه أمامهم على ضرورة التنظيم النقابي للعمال المغاربة وكانت مهمته توحيد الصفوف والدعاية لقضية المغرب العربي في أقطاره الثلاث ، وأسس مكتب لحزب الاستقلال لتنسيق الأعمال . وخلال سنتي 1947 - 1948 جاهد علال الفاسي كشخصية عربية تحضى بحضور دولي من خلال الجامعة العربية على إثارة القضية المغربية في هيئة الأممالمتحدة في سياق تدويل القضية المغربية واستمر في متابعة الموضوع رغم الصعوبات التي كانت تواجه القضية على الصعيد الدولي وتمكن بجهود الجامعة العربية من عرض القضية المغربية أثناء تهيئة جدول الأعمال للجمعية العامة للأمم المتحدة في 8-9 / 10 / 1951 ،وبذلك تمكن من إيصال صوت المغرب للمجتمع الدولي مع انه واجه صعوبات وضغوطات دولية في هذا المجال ، وأعيد عرض قضية المغرب سنة 1952 بمبادرة من وزير خارجية العراق الراحل الدكتور محمد فاضل الجمالي الذي تربطه صلة طيبة بعلال الفاسي ، واستمرت المطالبة بتجديد عرض القضية المغربية في الجمعية العامة للأمم المتحدة في تموز / يوليو 1953 لتأزم الأوضاع العامة في المغرب . ولم يتوقف نشاط علال الفاسي العربي الدولي عند هذا الحد بل زار عدة دول عربية ومن ثم كلفه حزب الاستقلال بزيارة (12) دوله في أوربا وأمريكا ألاتينية أتصل خلالها بالشخصيات الرسمية والحزبية والفكرية وألقى خلالها محاضرات عن القضية المغربية وعقد الندوات الصحفية وشارك في مؤتمرات عدة منها مؤتمر الشبيبة الاشتراكية الذي عقد في ستوكهولم وقدم تقريرا عن الحياة النيابية في المغرب قبل الحماية ، وأصبح اسم علال الفاسي معروفا على المستوى الدولي والعربي . ونتيجة تأزم الأوضاع السياسية في المغرب ، أقدمت سلطات الحماية الفرنسية في 20 / آب - غشت / 1953 على مؤامرة خلع الملك محمد الخامس ونفيه إلى جزيرة مدغشقر . وكان رد الفعل الوطني عنيفا ، وأعلن علال الفاسي بعد نصف ساعة من خلع الملك ونفيه من 4-5 القاهرة نداءه التاريخي الذي عرف بنداء القاهرة ،أعلن فيه تمسك المغاربة بالملك محمد الخامس كملك شرعي للبلاد وأعلن: ( أن لا مفاوضة قبل عودة الملك وإعلان الاستقلال) وتناقلت وسائل الإعلام العربية والدولية هذا النداء الذي عد نقطة انطلاق لابل نقطة تحول في تاريخ المغرب السياسي المعاصر . وبعد هذا التاريخ كرس علال الفاسي جهوده للنضال من اجل استقلال المغرب في مختلف المجالات السياسية والإعلامية والعسكرية عبر تأسيسه لجيش التحرير المغربي في نوفمبر 1954 ؛ الذي تولى عملية الأشراف والقيادة له وكان له ما أراد في سياق تحقيق هدف الاستقلال ، إذ حضر وشارك لانجاز هذا الهدف السامي مؤتمرات دولية عربية وإسلامية وأوربية من اجل خدمة قضية بلاده واستمر يقود المقاومة المغربية حتى تكلل نضاله بعودة الملك محمد الخامس من منفاه إلى المغرب في 18/ تشرين الثاني – نوفمبر / 1955 . وإعلان استقلال المغرب ، وقد اثبت علال إخلاصه لقضية المغرب قبل الاستقلال وبعدها داخل المغرب وخارجه وأصبح شخصية دولية كانت خاتمتها لقائه مع الرئيس الروماني وهو يحاوره في قضية وطنية هي قضية الصحراء المغربية ، إذ يصاب بنوبة قلبية في مكتبه في 13 / 5 / 1974 ينقل على إثرها إلى المستشفى وتفارق روحه الطاهرة الحياة . وكانت وفاته شهادة ميلاد جديدة . وإذ يحتفل شعبنا في المغرب بالذكرى 38 لوفاته رحمه الله ، فان استذكار العظيم واجب يفرضه الوفاء للبطولة والأخلاق ، إذ يهيئ الله للحق شخصيات وأنصارا ، إذا ذكرت ذكروا ، فإذا ذكر سقراط ذكر أفلاطون، وإذا ذكر غاندي ذكرت الهند ،وإذا ذكر علال ذكر المغرب . لقد فرض علال الفاسي نفسه على التاريخ المغربي والعربي والإسلامي المعاصر باستحقاق وكان احد صناعه ، إذ غدا نضاله الوطني ونتاجه المعرفي في مختلف المجالات أرثا وطنيا وعربيا وإسلاميا وإنسانيا فكرا وسلوكا ، فهو شخصية دولية استثنائية بحق بشهادة الجميع. .