خصَّ الأستاذ الدكتور محمود صالح الكروي، الأستاذ في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد، جريدة «العلم» بهذا المقال الذي ننشره بمناسبة الذكرى السابعة والثلاثين لوفاة الزعيم علال الفاسي. وقد سبق للباحث أن كتب أطروحته للدكتوراه عن حزب الاستقلال، ورسالته للماجستير عن البرلمان المغربي. وقد عاش في المغرب في الثمانينيات من القرن الماضي، حيث كان موظفًا في المكتب الثقافي الإعلامي العراقي في الرباط. يواجه الباحثون صعوبة في الكتابة عن المفكر والسياسي المغربي علال الفاسي ( رحمه الله ) نظرا لما تتميز به شخصيته من سمات عدة : مفكرا و أديبا وصحفيا و شاعرا عربيا لامعا و قائدا سياسيا وعالم دين مجتهد ( شكلت مؤلفاته في حد ذاتها ثورة تحديثية جريئة أعادت الاعتبار للنهضة الليبرالية العربية الإسلامية ) ورجل قانون مشهور بنتاجه الحقوقي و مؤرخا بارعا للحركة الاستقلالية في بلدان المغرب العربي وأستاذا جامعيا، ووزيرا وزعيم حزب سياسي ، له مؤلفات علمية في جميع هذه المجالات . وأمام هذه السمات الشخصية النادرة التي تميز بها علال الفاسي والتي تشكل كل واحدة منها عنوانا لدراسات وبحوث متعددة كتب عنها الكثير ولازالت مثار اهتمام الباحثين في مشرق الوطن العربي ومغربه وفي العالم الإسلامي . وإزاء هذا التنوع الايجابي في مفردات شخصية علال سأحاول التركيز على الموقف الوطني في شخصيته « 1910 _ 1956 » والتي شكلت صمام الأمان لكل ما تميز به لاحقا . إذ تحلى علال الفاسي بالشعور بالمسؤولية الأدبية و الوطنية منذ كان عمره خمسة عشر عاما ( تولد 1910 _ فاس ) عندما استطاع أن ينظم الشعر الوطني في قصيدته التي يقول فيها : أبعد مرور الخمس عشرة العب وألهو بلذات الحياة وأطرب ؟ ولي نظر عال ونفس أبية مقاما على هام المجرة تطلب وعندي آمال أريد بلوغها تضيع إذا لاعبت د هري و تذهب ولي أمة منكودة الحظ لم تجد سبيلا إلى العيش الذي تتطلب قضيت عليها زهو عمري تحسرا فما ساغ لي طعم ولا لذ مشرب سيعرفني قومي إذا جد جدهم كما عرفوني اليوم إذ قمت أخطب كانت هذه الدافعية الايجابية والحافز الوطني هما أول مثابة أسهمت في بناء شخصية علال التي ستتصدر المشهد السياسي في المغرب لمواجهة سياسة الاحتلال الفرنسي عندما أقدمت الأخيرة على إصدار ما سمي بالظهير البربري في 16 / 5 / 1930 في محاولة منها لشق وحدة النسيج الاجتماعي المغربي من خلال عزل البربر عن العرب ولتعزيز الوجود الفرنسي في المغرب . وقد تصدى علال الفاسي لسياسة فرنسا البربرية معلنا رفضه للظهير البربري ، وتقدم الصفوف في قيادة التظاهرات الشعبية الرافضة لهذا الظهير و المؤكدة على الوحدة الوطنية للشعب المغربي ، ومن هنا برز نجم علال الفاسي قائدا وطنيا بعد ان تمكن من نقل شرارة هذه التظاهرات إلى عموم مدن المغرب ولعب دورا كبيرا في تأجيجها من خلال شعره و خطبه الوطنية الحماسية في التظاهرات وكذلك من خلال دروسه في جامعة القرويين (حصل منها على مرتبة عالم 1930) والمدارس و المساجد . تعرض للاعتقال وأطلق سراحه تحت الضغط الشعبي . جرت مساومته من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي من انه لم يتم إصدار الأمر الجامعي بمنحه درجة عالم إلا إذا أعلن تخليه عن العمل الوطني ، فرد عليهم انه يكفيه فخرا ان اللجنة العلمية التي امتحنته قد أقرت منحه درجة عالم ، فلا حاجة له بالأمر الجامعي . وبذلك الموقف الوطني فوت الفرصة عليهم. هذا الحماس الوطني للموقف الشعبي الرافض للاحتلال الفرنسي دفع علال الفاسي إلى التفكير في كيفيه تنظيم صفوف الشعب واستثمار هذا الموقف و توظيفه بما يعزز استمرارية الروح الوطنية لدى الجماهير في استمرار تصديها للاحتلال الفرنسي ، في ضوء هذا الوعي المبكر بادر علال الفاسي ومجموعة من الشخصيات الوطنية إلى تنظيم حركة التصدي للتواجد الفرنسي في المغرب ، فأسسوا كتلة العمل الوطني عام 1934 والتي شكلت أول نواة للدفاع عن الوحدة الوطنية المغربية واستقلاليتها . تجلى ذلك بتقديمها برنامج الإصلاحات ( دفتر مطالب الشعب المغربي عام 1934 ) والذي مثل في جوهره ردا على إلحاق المغرب بوزارة المستعمرات الفرنسية ، و تتويجا لذلك النضال الشعبي ضد تلك السياسة التي تمس الوحدة الوطنية في الصميم . وفي ظل هذا الحضور المؤثر لعلال الفاسي في الساحة الوطنية المغربية عقدت كتله العمل الوطني المؤتمر الانتخابي العام لها لاختيار قيادة منتخبة للكتلة ،أسفر المؤتمر عن انتخاب علال الفاسي رئيسا للكتلة ومحمد بلحسن الوزاني أمينا عاما ، وما ان أعلنت نتائج الانتخاب حصل تطور سياسي مفاجئ إذ أعلن الوزاني انشقاقه عن الكتله ( لاعتقاده انه الأصلح للرئاسة ) وتأسيسه حزب الحركة القومية . وفي هذا الظرف الصعب و المفاجئ تبرز شخصية علال الفاسي في المحافظة على وحدة العمل الوطني ، إذ بذل جهدا كبيرا من أجل عودة الوزاني للكتلة ، إلا أن ذلك لم يتحقق . وقد تفاءل المستعمرون بخبر الانشقاق ، إلا أن الوطنية المغربية لدى علال كانت تسمو فوق الخلافات مع مراعاة احترام وجهات النظر ، إذ لم يذكر التاريخ أن علال قد اتهم ألوزاني بالخيانة و لا الأخير فعل ذلك ، واستمر كل من موقعه يقود العمل الوطني لخدمة المغرب و استقلاله . ونتيجة لتصاعد حدة المواجهة الوطنية ضد سلطات الاحتلال الفرنسي عام 1937 أقدمت تلك السلطات على نفي علال الفاسي إلى خارج المغرب إلى الغابون في محاولة لإبعاده والتخلص من حضوره الوطني بعد ان انتخب رئيسا للحزب الوطني . وقد تناسى المحتلون ان علال الفاسي قد بذر و زرع روح الوطنية و الاستقلالية و السيادة وحب المغرب في نفوس الملايين من المغاربة ، هذه الوطنية المتجذرة في نفوس الشعب هي التي واصلت وقادت النضال الوطني في مواجهة المستعمر الفرنسي و الاسباني بعد نفي علال الفاسي. لم تخمد روح الوطنية عند علال الفاسي في المنفى وإنما ازدادت تجذرا و تألقا و إيمانا يؤكدها بالممارسة بعد ان اتصل به ممثل عن الجنرال ديغول في محاولة لاستدراجه بالتخلي عن العمل الوطني مقابل العفو عنه وإطلاق سراحه و السماح له بالعودة إلى المغرب ، إلا ان علال الفاسي أبى إلا ان يبقى الوطني المخلص لشعبه ، فتقدم إلى ديغول بتقرير ضمنه شرحا وافيا عن الأوضاع العامة في المغرب و الممارسات اللا إنسانية للمحتل الفرنسي ( التي كان يسمعها علال من وسائل الإعلام بعد ان تعلم اللغة الفرنسية في المنفى ) و مطالبته باستقلال المغرب وقد سمي ديغول هذا التقرير بملف الفاسي .. هكذا تتجلى وطنية علال صادقة مخلصة في حبها لوطنها و شعبها . وفي أواخر عام 1946 أصدرت سلطات الاحتلال الفرنسي نتيجة ضغط المقاومة الوطنية عليها قرارا بالعفو عن السياسيين شمل الفاسي به ، فعاد إلى المغرب عودة الفرسان ، واستقبل استقبال القادة المنتصرين من قبل أبناء المغرب وقيادة حزب الاستقلال التي تمسكت برئاسة علال الفاسي للحزب طيلة سنوات نفيه . وبعد العودة إلى ارض الوطن بدأ علال مشوارا وطنيا نضاليا جديدا في قيادة حزب الاستقلال والتصدي لسياسة الاحتلال الفرنسي في المغرب ، وما ان شعر بالمضايقة من قبل سلطات الاحتلال ، اتخذ قرار الهجرة إلى مصر عام 1947 ؛ وأقام فيها لاجئا سياسيا وأسهم في تأسيس مكتب المغرب العربي في القاهرة في فبراير 1947 ، بعدها اختير أمينا عاما للجنة تحرير المغرب العربي . وفي القاهرة وظف علال الفاسي كل جهده الوطني و الثقافي وفي مختلف المنابر السياسية و الإعلامية من أجل نصرة شعبه داخل مصر و خارجها ، كما استثمر وجود الجامعة العربية في القاهرة لتكون قوة مضافة للتعبير عن تطلعات شعب المغرب في الحرية و الاستقلال و في تعرية و إضعاف سياسة الاحتلال الفرنسي تجاه بلده وإفشال مخططاتها ، وقد تجلى ذلك بدوره القيادي في إقناع قائد ثورة الريف عبد الكريم الخطابي الذي قامت سلطات الاحتلال الفرنسي بنقله من منفاه إلى مدينة مرسيليا بفرنسا _ في محاولة غير معلنة للتلويح للملك محمد الخامس بإمكانية عزله و تعيين الخطابي ملكا للمغرب لما يتمتع به من شعبيه عالمية _ وأثناء مرور الباخرة الفرنسية التي تقل الخطابي في ميناء السويس والتوقف فيه ، تمكن علال الفاسي و رفاقه من فك أسر الخطابي ونقله سرا وعائلته إلى القاهرة . وقد جاء إعلان خبر لجوء الخطابي إلى مصر ليشكل صفعة قوية وجهها علال الفاسي و رفاقه لمخططات الاستعمار الفرنسي وآلته الحربية وفوت الفرصة عليهم ، وبهذا العمل الوطني الجسور تصاعد نجم علال الفاسي في الآفاق الإنسانية رمز للوطنية المغربية . ويتعزز هذا الموقف الوطني في 20 / 8 / 1953 عندما أقدمت سلطات الاحتلال الفرنسي على خلع ونفي الملك محمد الخامس إلى جزيرة مدغشقر وتعيين ابن عرفه خلفا له . وما ان سمع علال الفاسي بالخبر حتى أعلن من القاهرة نداءه الشهير الذي سمي ب ( نداء القاهرة ) عبر إذاعة صوت العرب في 20 / 8 / 1953 قائلا :( لا مفاوضة قبل عودة الملك وإعلان الاستقلال ) وفي هذا النداء دعا علال المغاربة إلى الثورة و اعتماد أسلوب الكفاح المسلح ضد الوجود الاستعماري ؛ وبدأت على اثر ذلك عملية بناء جيش التحرير واستحق بجذارة ان يكون أحد زعماء الحركات التحررية في المغرب العربي في القرن العشرين .. وبذلك أصبح علال الفاسي ندا و خصما عنيدا للاستعمار الفرنسي . وفي القاهرة تتعرض وطنية علال الفاسي لامتحان من نوع جديد يفاجأ به من قبل بعض المسؤولين المصريين آنذاك في محاولة لإقناعه بتولي رئاسة المغرب بعد استقلاله على شرط إعلان الوحدة مع مصر ، و تثور ثائرة علال الوطنية وتتجلى بالقول انه لن يقبل أن يساوم على وطنيته ولن يكون إلا علال الوطني العربي المسلم الأصيل الذي يحافظ على العهد ؛ ولن يخون العهد الذي قطعه للملك محمد الخامس عندما بايعه سلطانا للمغرب كونه أحد العلماء المجتهدين الذي يحق لهم البيعة وإعلانها . وقد صدق علال وعده انه لم يتفاوض ولا المغاربة مع المحتل الفرنسي إلا بعد عودة الملك محمد الخامس في 18 / 11 / 1955 إلى المغرب . بعد أن أجبرت المقاومة الوطنية التي أسهم علال بدور كبير في القيادة وفي توفير وتعزيز إمكانيات الدعم المالي و العسكري لها بكل الوسائل من أ إجهاض مشاريع الاحتلال و تحقيق الحرية و الاستقلال التي توجت بعودة الملك وإعلان الاستقلال في 3 / 3 / 1956 . وعودة علال الفاسي قائدا بارا الى المغرب للمشاركة في بناء المغرب وتعزيز استقلاله . وبمناسبة الذكرى 37 لوفاة علال الفاسي في رومانيا ؛إذ كان في لقاء مع الرئيس الروماني وهو يحاوره في قضية وطنية هي قضية الصحراء المغربية ،إذ يصاب بنوبة قلبية وهو في مكتب الرئيس اليوغسلافي في 13/5/1974 وينقل على أثرها إلى المستشفى وتفارق روحه الطاهرة الحياة ؛ وكانت وفاته شهادة ميلاد جديدة . وجدت من المناسب و الوفاء ان نستذكر و نذكر بالموقف الوطني في حياته . إذ كان عنوانا للوطنية الصحيحة حتى يومنا هذا وسيظل يذكر اسمه يوميا عند المغاربة والمعجبين يه مادارت الأيام لأنه ترك إرثا في مختلف مناحي الفكر و السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و القانون وغيرها كانت وطنيته نبراسا لها .