على قلتها وضعفها ومناسباتيتها، تواجه جهود محاربة التدخين "ثقافة مضادة" تستمد خطورتها من طبيعة الفاعلين الأساسيين فيها والذين نجد على رأسهم أطرا تربوية وتعليمية و أطرا في الصحة. وهذه الثقافة المضادة تتحول معها "جهود" محاربة تلك الآفة إلى مجرد "ماء يصب في الرمل"، كما يقول المثل الشعبي. وقبل الخوض في الحديث عن تلك " الثقافة" والفاعلين فيها نذكر أن الحرب على التدخين "حرب عالمية" مستمرة تقودها منظمة الصحة العالمية والمنظمات الدولية غير الحكومية، و "حرب قطرية" تباشرها الحكومات الوطنية والمؤسسات التشريعية في كل بلد بدعم من المجتمع المدني. والمغرب لا يشكل استثناء في كل ذلك لولا انتشار تلك "الثقافة المضادة" التي تهدم ما تبنيه جهود الحرب على انتشار التدخين، بل لولى شبه غياب سياسات تعالج تلك الثقافة وتحد من أثرها. و في الوقت الذي تؤكد فيه معطيات عدة دراسات ارتفاع نسبة المدخنين في صفوف التلاميذ واستهداف سماسرة ترويج التدخين لتلك الفئة الهشة من المواطنين، و في الوقت الذي يدق فيه المجتمع المدني ناقوس الخطر حول انتشار أنشطة ترويج السجائر وغيرها في المحيط المدرسي، نجد أن المؤسسات التعليمية والصحية، إلا ما رحم ربك، تعجان بسلوكات خطيرة أقل ما يمكن أن يقال عنها هو أنها تبث وترعى ثقافة ناشرة ومشجعة على التدخين بدل محاربته، حيث تضفي الأولى قيمة اجتماعية إيجابية على التدخين و تشجع التلاميذ عليه بذلك، وترفع الثانية عن التدخين الخوف من أضراره الصحية. و لتقريب صورة السلوكات الباعثة والراعية لتلك "الثقافة المضادة " نقف عند صور منها تعتبر عناوين رئيسية عن تلك السلوكات الصادمة التي منها ما يتم في العلن ومنها ما يتم في الخفاء سبق لوسائل الإعلام أن فضحته. ففي مجال التربية والتعليم نرصد جميعا سلوكات مدمرة نقدم أخطرها في ثلاث صور: الصورة الأولى هي التي يتورط فيها إطار تربوي، قد يكون مدير مؤسسة، في تعاطي موبقات ضمنها التدخين مع تلاميذ، في لقاءات خاصة. وهذه الصور التي تتم في الخفاء انفضح بعضها بعد تسريب أشرطة مصورة كانت محل تحقيق ومتابعة. وهذه الصورة التي يتورط فيها رئيس مؤسسة تربوية من شأنها إفراغ كل جهود التوجيه والتربية لدى رواد تلك المؤسسة من التلاميذ. الصورة الثانية هي التي يعمد فيها مسؤول مؤسسة تربوية، أو أستاذ فيها، إلى تكليف تلاميذ في مهام سخرة لشراء سجائر للمعني، و هذه الصورة المنتشرة تنطوي على جريمة مركبة، جريمة تشجيع التلاميذ على التدخين ورفع كل معاني الحظر عنها، وجريمة استغلالهم في أعمال السخرة الممنوعة. الصورة الثالثة، و هي الأخطر من حيث التشجيع على التدخين وتعليمه، هي التي تُقْدم فيها الأطر التربوية من مختلف مستوياتها، على التدخين علانية وبصورة فيها الانتشاء والاستمتاع في ساحات المؤسسات التربوية، أو في الفصول الدراسية أو مكاتب الإدارات. إن الصور المقدمة سلفا إنما تقرب الصورة الشاملة ل"ثقافة مضادة" تنشرها بعض الأطر التربوية والإدارية في المؤسسات التعليمية دون قصد، لكن مفعولها التدميري في ضرب جهود محاربة التدخين كبير جدا، و تكون تلك "الثقافة" أكثر تدميرا و أشد خطورة كلما كان عمر النشء المستهدف صغيرا. ومعلوم أن الإطار في التعليم سواء كان تربويا أو إداريا، يكون قدوة التلاميذ ونموذجهم الأسمى في تلك المرحلة العمرية. الصور الثلاث السابقة منتشرة على نطاق واسع، و تتكرر بشكل يومي أمام ملايين التلاميذ في كل ربوع المملكة، وهي صور صادمة وخطيرة لأنها تضفي على التدخين قيمة اجتماعية إيجابية ومحببة في أوساط نشء يعتبر مقترفي تلك الجرائم قدوتها. المجال الثاني الحساس الذي تهدر بسببه مثل تلك التصرفات جهود محاربة التدخين، هو قطاع الصحة، فإذا كان الاعتبار الأساس في محاربة التدخين هو الأضرار الصحية التي ينطوي عليها، فإن إقدام الأطر الصحية، خاصة الأطباء، على التدخين المنتشي أمام المواطنين وأحيانا داخل المستشفيات وفضاءاتها، له رسالة في غاية الخطورة، وهي تقول بالدليل القوي: " لا تصدقوا شيئا مما يقال عن أضرار التدخين، فلو صح من ذاك شيء لكان الأطباء ومن في شاكلتهم أول الممتنعين عنه"! إن الانطباع اللاشعوري الذي يتركه تدخين الأطباء هو طمأنة المدخنين والراغبين فيه على صحتهم وصحة من يجاورهم وهم يدخنون. و في هذه الحالة لا أحد قد يستطيع إقناعهم بمخاطر التدخين على الصحة الفردية والعامة. وهذا يساعد على إفراغ خطاب الأضرار الصحية للتدخين من مضمونه و فاعليته. استعرضنا في ما سبق نموذجين من قطاعات حكومية تقدم مفارقة صارخة فيما يتعلق بمحاربة التدخين، حيث أنه في الوقت الذي ينتظر فيه أن تقوم تلك المؤسسات بدور فعال في تلك المحاربة من خلال برامجها والانضباط في السلوك العمومي لأطرها بمقتضيات تلك المحاربة، نجد أن سلوكيات بعض أطرها يهدد تلك الجهود بالفشل. و في الواقع لا يقتصر الدور السلبي لتدخين المسؤولين والأطر على قطاعي الصحة والتعليم، فالقاعدة العامة تقضي بأنه يساهم في نشر آفة التدخين كل مدخن في العلن له وضع اجتماعي ما يكون مصدر اقتداء جزء من المجتمع به. إن جهود محاربة التدخين، على قلتها وضعفها وموسميتها، تهدرها السلوكيات التي تُطَبع معه وتلبسه حلة اجتماعية إيجابية وتجرده من كل المخاطر. إنه إذا أضفنا لما سبق، ما يعج به الإعلام من صور نمطية إيجابية عن التدخين، وتعثر إخراج وتطبيق القانون المتعلق بالتدخين في الأماكن العمومية، والتوسع المقلق والخطير للسوق السوداء، وانتشار نقط البع بالتقسيط في كل مكان وفي محيط المؤسسات التربوية، كل هذا وغيره يؤكد أن ملف "الحرب على التدخين" ملف لم يفتح بعد بما يناسب التهديد الذي يمثله على المجتمع و أمنه الصحي. لقد آن الأوان أن نتجاوز، حكومة ومجتمع مدني، الوضع الحالي غير الفاعل لجهود محاربة التدخين، والعمل على تأطير تلك الجهود بانخراط الفاعلين الأساسيين في "ثقافة التدخين" بالقدوة الحسنة الفعالة في تلك الجهود. الإصلاح