يتوسط المشهد.. أمٌّ فلسطينية تجري في الشارع، ودَّت لو تطير كعصفورة خائفة على أبنائها من شراسة الغربان، تبحث عن أبنائها، وصوت إطلاق النار في خلفية المشهد لا يجعل صوتَها واضحاً. لا شيء يتضح سوى الحسرة التي تملأ وجهها، والخوف الذي يملأ الأحياء كلها، تجد الأمُّ واحداً من أبنائها على الأرض مغشيًّا عليه وقد كُسر ساقُه تحت أنقاض البيت، سيارات الإسعاف بعيدةٌ ولا تستطيع الوصول إلى المنطقة، أما عن ابنها الثاني، فقد تركته في البيت بعد أن تأكدت أنه فارق الحياة.. هذا ما حدث في حيِّ الشجاعية شرق مدينة غزة. القاتل ما زال حيًّا، والضحية كالعادة.. مدنيون فلسطينيون أبرياء، قتلتهم المدفعية الاسرائيلية، في صورةٍ تُعيد الذاكرةَ إلى مذبحة "صبرا وشاتيلا" ولكنها تحدث اليوم في عصر العولمة التي لا تستطيع إلى الآن إقناع العالم بأنَّ هناك من يُقتلون بدمٍ بارد، وفي وقتٍ لا يعلم فيه المجتمع الدولي أنَّ عليه تحمُّل جزء من الإنسانية تجاه هؤلاء الناس الذين يموتون بالمجَّان. لا زالت عملية انتشال جثث الشهداء في حيِّ الشجاعيَّة قائمة حتى لحظة كتابة هذا التقرير، فالمشهد الذي تركته آلةُ الحرب الصهيونية كفيلٌ بأن يُصوِّر الهمجية التي تعرض لها سُكَّانُ هذا الحي، وبرغم أنَّ عدداً كبيراً من سكان المنطقة قد نزح قبل وقوع الكارثة، إلا أنَّ عشرات الشهداء ومئات من الجرحى قد سقطوا خلال هذه المذبحة. أطفال يموتون بالجماعة، وعائلات أبادتها الطائرات الاسرائيلية بأكملها. يُذكر أنَّ آلافاً من المواطنين الذين يسكنون في حيِّ الشجاعية نزحوا من هذه المنطقة، وقد لجأ معظمهم إلى المدارس والمستشفيات، إضافة إلى المجموعات الكبيرة التي لم تجد مكاناً يؤويها؛ فافترشت الشوارع والأرصفة. أما عن الصليب الأحمر، فقد قدم طلباً لإجراء هدنةٍ إنسانيَّةٍ لمدة ساعتين لإجلاء الجثث من المكان، وهو ما وافقت عليه قوات الاحتلال وحركة حماس، وبعد أقل من نصف ساعة على الاتفاق، خرق الاحتلال – كعادته – الاتفاقَ واستأنف قصف الحيِّ بالمدفعية. إذن هي مذبحةٌ جديدةٌ في الشجاعيَّة، تُضاف إلى جرائم الاحتلال المرتكبة بحقِّ الشعب الفلسطيني. وقد بدأت مدفعيَّة الاحتلال الإسرائيلي بإطلاق قذائفها بشكل مكثف على منازل المواطنين في الحي دون سابق إنذار؛ لتسقط أعدادٌ هائلةٌ من المواطنين ما بين الشهداء والجرحى. وعن ضحايا هذه المجزرة الجديدة، قالت وزارة الصحة أنَّ ما يزيد عن 72 شهيداً قد ارتقوا في هذه العملية، إضافة إلى 255 جريحاً وصلوا إلى مستشفيات القطاع، وأعداد كبيرة من الشهداء والجرحى الذين لم يستطع أأحدٌ الوصول إليهم إلى الآن.