يبدو أن سياسة المغرب في تدبير الشأن الديني أصبحت لها جاذيبتها الخارجية ، فأصبح النموذج المغربي محطة اهتمام وإعجاب بالنسبة لعدد من الدول التي أبدت رغبتها في الإطلاع على هذه التجربة للإحتداء. بها وقد تجسد هذا الأمر بشكل جلي من خلال تقديم عدد من الدول طلباتها للمغرب قصد تكوين أئمة وخطباء مثل مالي ، تونس وليبيا وغنيا(...) إن هذا الإشعاع الخارجي الذي اكتسبته سياسة تدبير الشأن الديني، جاء نتيجة ما حققته التجربة المغربية من تراكمات إيجابية. ذلك أن المغرب انتبه منذ وقت مبكر إلى أهمية هذا الحقل من خلال العناية به وهيكلته ورسم سياسته، وازداد هذا الاهتمام وارتفعت وثيرته بعد الأحداث الإجرامية التي شهدتها مدينة الدارالبيضاء يوم 16 ماي2003 وما ترتب عنها من قتل للأبرياء . فتجسدت هذه العناية من خلال مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني والتي تضمنت مجموعة من الإجراءات العملية لترسيخ الوسطية والاعتدال ومحاربة التطرف والحفاظ على ثوابت الأمة المغربية وفي هذا السياق جاء توسيع عدد المجالس العلمية وإدماج المرأة بها ووضع ميثاق العلماء وتكوين الأئمة والخطباء وإحداث معهد لتكوين المرشدين والمرشدات وإنشاء المجلس العلمي الأعلى والرابطة المحمدية للعلماء وإطلاق قناة محمد السادس للقرآن الكريم وتحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للقيمين الدينين. صحيح أن هذه السياسة حققت العديد من النتائج والتراكمات الايجابية ومن أبرازها تحيد المساجد عن السجلات والصراعات الحزبية والمذهبية، وإدماج عناصر فاعلة في الحقل الديني الرسمي وتوظيف الخطاب الديني في تكريس الاستقرار والأمن والوحدة ... إن ما تحقق على المستوى الداخلي وما حظي به النموذج المغربي على مستوى الإشعاع الخارجي، لاينبغي أن يصيبنا الانبهار والإعجاب والغرور... لكن في ظل التميز لابد من الانتباه إلى الأعطاب الداخلية لتدبير الشأن الديني ومن هنا لابد من الملاحظات: أولا، فالتدبير الأنجح هو تدبير متجدد يسعى إلى التقويم المستمر لتعزيز الإيجابيات والانتباه إلى السلبيات في أفق تدبير أفضل وأقوم وأجدى من أجل المزيد من المكتسبات والفعالية، فالحقل الديني يتطلب يقظة دائمة وتجديدا متواصلا . ثانيا، إن تدبير الشأن الديني الذي ينبغي أن يظل ورشا مفتوحا باستمرار، لكن هذا الورش نظرا لحساسيته وحاجة المجتمع إليه، لابد أن يفتح فيه نقاشا عموميا حقيقيا وصريحا تشترك فيه كل الكفاءات من ذوي الاختصاص والاهتمام، يتوخى الوضوح والدقة في التشخيص دون مداهنة أو تغطية للواقع يعترف بالسلبيات والانجازات ويشخص التحديات ويقترح الحلول بكل مسؤولية وأمانة ونزاهة وتجرد حتى نستطيع وضع سياسة دينية تشاركية حقيقية. ثالثا، اعتماد الكفاءة والأمانة والثقة والمسؤولية والانتماء إلى ميدان الشأن الديني كمعاير لإسناد المسؤوليات وفتح باب التباري وفق ضوابط محددة، لأن لهذا المجال خصوصية، فالنائحة ليست كالثكلى كما يقال. رابعا، توفير الوسائل المادية الضرورية والموارد البشرية لتنفيذ المشاريع والبرامج وتسهيل المساطر وإصدار القوانين والتشريعات اللازمة لتحديد المهام والمسؤوليات بين المؤسسات المسؤولة عن تدبير الشأن الديني وجعل العلاقة بينها علاقة تعاون وتكامل لإعطاء فعالية أكبر في التنفيذ والممارسة. خامسا، تحسين العلاقة بين المؤسسات الرسمية والمؤسسات الأهلية المهتمة بالشأن الديني لان انخراطها ومساهمتها، يشكل إضافة نوعية، شريطة أن تكون الشراكات واضحة والمسؤوليات محددة والثقة متبادلة، لأن الدولة كمشرفة على تدبير الحقل الديني بشكل رسمي مهما بذلت من جهد وأنفقت من أموال لابد لها من سند مدني يدعمها ويسهم في تحقيق الأهداف والبرامج والمشاريع خصوصا بالنسبة للمؤسسات المدنية التي تملك التجربة وتتوفر على كفاءات بشرية ولها امتدادات في الأوساط الشعبية، إن هذا الأمر ليس بالسهل تنفيذه ولكنه لا يدخل في باب المستحيل كما أن من شأن هذا الأمر أن يعطي مصداقية أكبر للمؤسسات الرسمية ويحقق لها الانفتاح حتى لاتبقى جزر معزولة على حد تعبير أمير المؤمنين في إحدى خطابته. سادسا، ربط المسؤولية بالمحاسبة لأن من شأن هذا الأمر أن يحفز على الانجاز والتنافس الايجابي والإبداع في التنفيذ وترشيد الإمكانات والطاقات، خصوصا وأن بعض المشاريع أبانت عن فشلها وعدم جدواها وقد صرفت فيها أموال باهضة وجهود مقدرة كعملية نشر أجهزة التلفاز في المساجد لبث دروس الوعظ والإرشاد . سابعا، تنظيم محطة سنوية لكل الفاعلين في مجال الشأن الديني لتقييم الانجازات والإخفاقات واستشراف المستقبل بوضع الخطط والبرامج والاستراتجيات وفق رؤية تشاركية واضحة ومحددة المعالم والأهداف، تستحضر المصلحة العامة، كما تستحضر النجاعة والفعالية في التنفيذ. هذه بعض الإشارات في موضوع يسحق المزيد من التأمل والنظر، أرجو أن ينتبه إليه من يهمهم الأمر.