حفل ساحر للجميع ما شاهدناه من تفجير للخيالات في رسم الأبعاد الثلاثية وفي تقديم العالم الرقمي وبيكين تقدم سنة 2008 حفلا إفتتاحيا صنف في عداد الخرافات، وما كان عليه اليونانيون من إبداع في ربط الأساطير لتجسيد مسيرات الإعجاز للفكر الإنساني وأثينا معقل ومهد الحضارات تفتتح أولمبياد 2004 وضع البريطانيين في مأزق، فقد كان عليهم أن يختاروا أحد الأمرين، إما أن يفكروا في منافسة من سبقهم عند تصميم الحفل الإفتتاحي للندن 2012 أو يطابقوا عمقهم التاريخي وموروثهم الفكري الذي أغنى الإنسانية جمعاء. كان البريطانيون على درجة عالية من الدهاء، فتجنبوا الوقوع في الفخ وقرروا أن يفتتحوا أولمبيادهم بفيض من السحر وببراعة تصميم ودفق خيال أدخلنا جميع كهوف التاريخ ومنارات الإبداع، إذ نجح الحدث الرياضي الأكثر كونية واستحواذا على المشاهدة في العالم في تمرير رسالات عميقة بمضامين فكرية راقية وبتصميم فني وظف كل ما توصلت إليه تكنولوجيا الصوت والصورة من مستويات خارقة في التوهيم والإيحاء والجذب أيضا. قرر البريطانيون أن يقدموا البدايات الطبيعية للإنسانية من خلال بيئتهم وبداوتهم وسليقتهم أيضا، وكان أمرا لا يخلو من براعة في التجسيد أن تشيد على أرضية الملعب بادية مترامية بسهولها الخضراء وببساتينها اليانعة ومجاريه الجالبة للخير، هناك إرتبطت حياة الإنسان بالجد واللعب، لينقلنا مصمم حفل الإفتتاح إلى الغزو الصناعي الذي سيقلب حياة الإنسان رأسا على عقب، فلن يساعده ذلك فقط على تطويع وتليين الطبيعة ولكنه سيفقده نسبيا رومانسيته. تقول ملحمة حفل الإفتتاح على أن هناك دولا تعيش على ثوراتها التي تغيرها رأسا على عقب، وبريطانيا العظمى عرفت ثورة غيرت العالم كله، الثورة الصناعية التي قلبت تاريخ البشرية جمعاء، وبعدها لم يكن هناك شيء مثيل. في نهاية القرن العشرين قدم العالم البريطاني تيم بيرنيسلي للعالم هدية ستكون لها تداعيات جذرية، الآلة البخارية «وورد وايدر ويب»، إختراع قال عنه وقتها، بأنه لكل الناس. «حفل للجميع» هذا هو الشعار الذي تبنته اللجنة المنظمة لحفل إفتتاح الألعاب الأولمبية لندن 2012 والذي إحتفى بالإبداع وبطيبوبة الشعب البريطاني. أما فلسفة هذا الحفل فتقوم على أن من تواجدوا بالملعب لم يكونوا متفرجين، فكل من كانوا بداخله يمثلون جزء من السحر وكلهم يشاركون نجاحات الشعب البريطاني. وقد قادتنا فقرات الحفل الإفتتاحي إلى كل الثورات التي عرفتها بريطانيا من الثورة الصناعية إلى الثورة الرقمية التي يعيش العالم اليوم فصولها المثيرة، وعبر المرور الرائع على كل الأزمنة كان هناك خيط من ذهب، هو الهدف الذي قامت عليه الرسالات السماوية، عالم يمكن أن تبنيه الإنسانية بفضل رفاهية الصناعة، بفضل أمة تبني الدولة الديموقراطية، بفضل طاقة السعادة للثقافة الشعبية وأيضا بفضل الحلم بتواصل كوني. وكما كان لبرءة الطفولة مكان في هذه الإليادة عبر عرض خارق تمازج فيه الضوء النيزكي بالتعابير الرائعة، فقد كان للروماسية المجسمة لقيم الحب والتأخي مكان في مسرح العرض كما أبدع مصمم الحفل في إطلالة رموز بريطانيا عندما قدم لوصول الملكة إيليزابيت الثانية إلى الملعب الأولمبي بطريقة فريدة ومستحدثة، فقد إختار المخرج حبكة سينمائية مثيرة جعلت من الممثل السينمائي الشهير دانييل كريغ الذي جسد شخصية جيمس بوند مرافقا خاصا للملكة يصحبها برفقة زوجها على مثن طائرة هيليكوبتر قفزت منها بطريقة التوهيم لأرضية المسرح الأولمبي، وعندما جسد الفريد من نوعه والمبدع الثاني للسينما الصامتة مستر بين العجيب أحد أدوار العمل السينمائي الخالد «العربات تحترق»، وأخيرا عندما تشرف الدراج برادلي ويغنس أول بريطاني يفوز بطواف فرنسا للدراجات بقرع جرس الأولمبياد على إيقاع ساعة البيغ بن التي تشتهر بها بريطانيا. وبالتأكيد عندما تتلاحم كل هذه المشاهد وغيرها بخاصة تلك التي عبرت بسرعة فائقة، لتصوغ لنا ملحمة فنية غاية في الإبداع، ملحمة سحبتنا فصولها عبر المحكي فيها إلى قرون بعيدة وأدخلتنا موسيقاها الصاخبة والتي وظفت أحدث الأنظمة الصوتية إلى عوالم الجنون، فإن ذلك يقود إلى حفل إفتتاحي إمتزجت فيه الأصالة بالمعاصرة. حفل لم نشعر أبدا أنه إستغرق أربع ساعات كاملة قضاها العالم أمام إبداع إنساني من تصميم بريطاني، إنه السحر الذي يطلق العنان لكل حواس الإبداع لتفعل بنا ما تشاء، فليبدأ الإحتفال ولتأخذنا إلى أحضانها لندن حتى لو إحترقت الجيوب من فرط الغلاء.