الشماخ الذي غاب·· وقعت أسير حزنين·· حزن على رحيل عبد الرزاق مكوار وحزن على تخلف مروان الشماخ عن مباراة ياوندي، ولو أن الحزنين معا لا يقاس الواحد منهما بالأخر لوجود فوارق في المبنى وفي المعنى أيضا، إلا أن نفسية المغاربة وقد ضاقت برحيل الأفذاذ والعظماء وضاقت أيضا بما تهب به الأيام من رياح شريرة وصلت حد التعب والإعياء والضيق أيضا· يوم الخميس طالعت الخبر منشورا في أكثر من موقع يقول بأن عبد الرزاق مكوار أدخل إحدى مصحات الدارالبيضاء وقد ساءت حالته الصحية، وأنبأنا كل ذلك باقتراب النهاية، بموعد الرحيل بإيذان ساعة الفراق التي لها ترتيب من الخالق عز وجل لا يقدم ولا يؤخر· وكان المرض اللعين الذي استبد بعبد الرزاق مكوار قد أبعده عن العيون وعن مواقع رياضية كثيرة كانت في مسيس الحاجة إلى عبقريته، إلى شموخه وأيضا إلى نباهته وفكره المشتعل بكل ما هو إستباقي، بكل ما ليس له صلة بعصره· ما قدمه الراحل عبد الرزاق مكوار للوداد فعليا لمدة عقدين من الزمان تحكي عنه الألقاب والكؤوس التي هي مودعة اليوم بأمانة في متاحف التاريخ، وتحكي عنه أدبيا كل حجرة موضوعة في القلعة الحمراء وفي صرح الوداد، ولكن ما نحته عبد الرزاق في ذاكرة الكرة المغربية أعلى شأنا وأعمق أثرا، فالرجل بشَّر بأشياء، أوحى بأفكار، تنبأ بمنظومات بعضها لم نأخذه كأسرة رياضية وكصناع قرار مأخذ الجد، لوجود قصور في الفكر الإستباقي، وبعضها الآخر أخذناه على هيئته الأولى، لم نطوره، لم نعجنه لم نتعمق فيه، فدفنته الأيام مع أشياء كثيرة· وجوه كثيرة إجتمعت في مكوار وهي ذاتها تفرقت في غيره، منها ما هو إنساني محض وكان له صلة وثيقة بالنشأة وبالتربية، منها ما هو رياضي وقد إقترن بحالة من العشق لكرة القدم الذي يصل حد التصوف والزهد في ما دون ذلك، وأقصد هنا أن يكون العشق غطاء لطمع في وظيفة سامية، ومنها ما هو إبداعي، وهنا برزت براعة الرجل وحنكته في فلسفة الفكر، فقد انطلق من واقعه بكل متناقضاته محللا، مقارنا ومستقرئا، لينتهي بمطلق النباهة الفكرية إلى حدس صور وقيم ورهانات لم تكن لها أدنى ملامح في عصره، فقد قال مكوار في السبعينيات وكلنا يذكر ذلك، أن للمغرب قدرات فعلية لتنظيم كأس العالم، ثم قال في أكثر من موقع أن المغرب قادر على أن يكون بين عمالقة العالم في كرة القدم، واشترط لذلك اعتناق الإحتراف مذهبا وفكرا وسلوكا· يستطيع أسلوب تدبير مكوار للوداد وقد ذهب فيه إلى حالة العصيان التام لكل ما هو تقليدي، أن يكون مادة تلقن في معاهد تكوين النخب الرياضية، فقد كانت له براعة في قيادة فريق كبير، تضعه جماهيريته وشعبيته باستمرار فوق فوهة بركان، وتحمل في ذلك ما تحمله على مدى عشرين سنة، منتصرا بالذات لطبيعته كرجل لا يهاب الرهانات مهما كانت مستحيلة· ولم يكن الأمر مقتصرا عند مكوار على مطابقة الوداد مع شعبيتها، ومع جماهيريتها، كما لم يكن في ذلك مقتصرا على أن يجعل من الوداد فريقا يعمل باستمرار تحت إكراه تحصيل البطولات، بل إنه تعداه إلى وضع قاعده حديثة للصرح وللهرم، فإذا ما كانت الوداد بعد تخليه عن رئاستها وقد عمر فيها لعشرين سنة، قد واصلت إنتاج النخب المسيرة وإنتاج اللاعبين الكبار، وأيضا مطارده الألقاب بمختلف الأبعاد، فالفضل في ذلك كله يعود إلى ما تبثه مكوار فكرا وتدبيرا· يرحل مكوار جسدا، وترتقي الروح إلى الملكوت الأعلى، ويظل مكوار الفكر، مكوار الإنسان، ومكوار المبدع حيا في الذاكرة وفي الوجدان وفي التاريخ، وقطعا سيحاسبنا التاريخ وسيحاسبنا الوفاء وسيحاسبنا الإعتراف، على كل الذي سنفعله اليوم، نحن الجيل الذي عاشره وجايله لنجعله قيمة رياضية وإنسانية تعيش فينا ومعنا إلى الأبد ·· والحزن العميق على رحيل مكوار، كان هو ذات الحزن على الخبر الذي بلغني في صورة احتمال يوم الثلاثاء ونحن في طريقنا لإقفال عدد الخميس، قبل أن يصلني في صورة مؤكدة يوم الأربعاء مساء، خبر غياب مروان الشماخ عن مباراة الكاميرون· كان الزميل ميمون محروج مندوبنا الدائم بفرنسا مرابطا بفندق >دولتشي< بضاحية شانتيي غير عابئ بما يبديه روجي لومير من امتعاض، فكلنا يعرف أن الرجل يضيق ذرعا بالصحافة وذلك شأنه، عندما أبلغني صباح يوم الثلاثاء، بأن مروان الشماخ إلى اللحظة لم يحضر لمعسكر الفريق الوطني، برغم أنه لعب مباراة كاين يوم السبت وعاش احتفالات التتويج بلقب البطولة الفرنسية يوم الإثنين·· وكانت الذريعة المقدمة أن مروان وكافة عائلة بوردو في غمرة الإحتفال باللقب·· صعقت بخبر وفاة "برنار بيات" وهو أحد أبرز إداريي النادي الفرنسي· وأمهل الشماخ بحسب ما بلغنا بعض الوقت، قبل أن يستبد القلق بلومير وإداريي الفريق الوطني ليباشروا مهمة الإتصال به هاتفيا للإطمئنان عليه· ومرت الساعات من دون أن يتوصل أحد إلى ربط الإتصال بمروان الشماخ، فقد كان هاتفه مغلقا وذلك وحده يخلق حالة من الإرتياب ومن الإرتباك والتوجس· ومرت الساعات ثقيلة متثاقلة، إلى أن تبين صباح يوم الأربعاء الخيط الأول لما سيصيب الجماهير واللاعبين والإعلام بالصدمة، فقد ساقت القصاصات أن مروان الشماخ أصيب ولن يكون بمقدوره الحضور مع الأسود في مبارتي الكاميرون والطوغو·· وكان ضروريا أن يتحرى عن الخبر وصدقيته، لطالما أن هناك أسئلة كثيرة تناسلت وأكثرها بفعل تعاظم الشك في سلامة العذر· من تلك الأسئلة، كيف يتم الحديث عن إصابة والشماخ قاتل خلال مباراة كاين التي توجت بوردو السبت قبل الماضي ولم يظهر لكل من تابعها ما كان يشير إلى إصابته؟ ثم لماذا تتأخر إدارة بوردو في مراسلة الجامعة بشأن تلك الإصابة؟ ولماذا عمد الشماخ إلى إقفال كل قنوات الإتصال به؟ لماذا لم يحضر شهادته الطبية ويعرض نفسه طبقا للمواثيق على طبيب الفريق الوطني مع أنه كان قريبا جدا من معسكر شانتيي بفرنسا؟ يوم الأربعاء وبعد انصرام ساعات الإنتظار، تتوصل الجامعة بفاكس من إدارة بوردو، يؤكد من خلاله طبيب الأخير أن مروان الشماخ مصاب فعلا، ويوم الجمعة أي بعد مرور يومين، طلع موقع بوردو على شبكة الأنترنيت يخبر بأن مروان مصاب وأنه لن يلعب مبارتي الكاميرون والطوغو·· وتحرى مندوبنا بفرنسا الزميل ميمون محروج بما تأتى له من وسائل عن الموضوع، إتصل بإدارة بوردو فأكدت خبر الإصابة، واستدلت بأنه خلال مباراة كاين طالب مدربه لوران بلان بتغييره، إلا أن مصيرية المباراة لم تسمح بذلك وهو ما جعل الإصابة تتفاقم·· وفي ظل كل إستحالة للإتصال بمروان الشماخ أمكن للزميل ميمون محروج معرفة أن مروان وبعد أن عرج على ملعب رولان غاروس لمشاهدة إحدى مباريات التنس، طار على الولاياتالمتحدةالأمريكية لقضاء الإجازة وهو بكامل الإقتناع أن الجامعة بلغها خبر الإصابة· وأكثر ما يفاجئنا بل ويصدمنا في هذا الإلتباس أن مروان الشماخ ما تخلف يوما عن الفريق الوطني، ما ساوم يوما في الواجب، وما تأخر بالجهد وبالعرق وحتى بالمجازفة عن أداء رسالة يعزها ويفخر بها· لذلك ألتمس من كافة الجماهير أن نفسح بعض الوقت للجامعة لتتحرى عن الحقيقة في كل هذا الذي حصل وهذا الذي أحزننا، وإن كنت ملحا في طلب مقاربة جديدة لتدبير عرين أسود الأطلس، بما يستجيب لهذا الشغف الكبير الذي يعيش عليه المغاربة·