يقول الله تقدست أسماؤه: "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَللاَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الاُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَأوَى وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" [الضحى، 1-11]. هذه السورة جليلة القدر، عظيمة الشأن، لكونها جامعة لوجوه المبرة والكرامة والتعظيم والسعادة والتنويه بنبينا صلى الله عليه وسلم، وكان كثيرٌ من العلماء والصالحين يستبشرون بسماعها وتلاوتها، ويكثرون من قراءتها وتدبرها... وكنت قد لقيت في سفري ذات يوم أحد الفضلاء؛ فقرأ بين يدي قول الله تعالى: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَأوَى" [فقال بلى يا رب] "وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى" [فقال بلى يا ربي] "وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى" [فقال بلى يا ربي]. وسبب نزول هذه السورة كما ذكر المفسرون أن الوحي فتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من الزمن، وقد جاء في بعض الأحاديث أنها دامت سنتين ونصف، فتكلم المشركون وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحزنه، وجاءه جبريل بسورة الضحى يُقسم له ربه -وهو الذي أكرمه بما أكرمه به- ما ودعه وما قلاه فقال: "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى" يقول ما فارقك فتركك، وما أبغضك منذ أحبك، "وَللاَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الاُولَى" أي ما عندي من مرجعك إلي خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا. وهذه الحظوة وهذا التشريف والفضل الناشئ عن قوله "مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ" وإن كان عظيما وكبيرا إلا أن مالك عند الله في الآخرة خير وأعظم... "وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى" وهذه وحدها آية عظيمة، فريدة في بابها، جامعة لأنواع السعادة، وشتات الإنعام في الدارين والزيادة، قال ابن إسحاق: "يرضيه بالفوز والظفر في الدنيا والثواب في الآخرة" وروي عن بعض آل البيت أنه قال هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى واحد من أمته في النار، وحذف مفعول يعطيك ليعم أنواع العطاء من المعاني الكمالية والمواهب اللدنية والحكمة وظهور الأمر وإعلاء الدين والنصر والشفاعة والحوض وغير ذلك مما لا يعلم كنهه إلا الله جل وعلا. ثم وقفه الله تعالى على سابق أحواله يُعرفه ما ابتدأه به من كرامته ومَنِّهِ عليه في يتمه وعيلته وضلاله واستنقاذه من ذلك كله برحمته حين فقد أبويه، وكان في كنف عمه أبي طالب، وقد سُئل جعفر الصادق لما يُتِّمَ النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه، فقال لئلا يكون عليه حق لمخلوق، فقال جل وعلا "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى" يمن عليه بنعمة التربية، وأنه كان محظوظا ملحوظا بعين العناية "وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى" ومعنى الضلال هنا عدم المعرفة، والمعنى أنه لم يكن يعرف الشرع فهداه الله إليه بالوحي وهذا كقوله تعالى "ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان"؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منزها عن ضلال الكفار، ولم يعبد صنما قط، وما تلبس بشيء مما كان يصنع أهل الجاهلية حتى أكرمه الله برسالته ثم قال: "وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى" والعائل الفقير معناه أنه أغناه بالقناعة والصبر وحبب إليه الكفاف. وكما عدَّد الله عليه هذه النعم الثلاث وصاه بثلاثِ وصايا؛ في كل نعمة وصية مناسبة لها.. فبإزاء قوله: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى" وصاه بقوله: "فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ" أي لا تكن جبارا ولا متكبرا ولا فظا على اليتيم، ولا تعبس وجهك إليه، والمعنى عامله بمثل ما عاملك الله به، وأحسن كما أحسن الله إليك، وإذا كان العَتْبُ واللوم بمجرد العُبوس في الوجه فكيف إذا أذَله أو قهره أو تسلط عليه أو أكل ماله وفي الأثر "إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن يقول تعالى من أبكى هذا اليتيم الذي واريت والده في التراب". وبإزاء قوله: "وَوَجَدَكَ ضَالا فَهَدَى" وصاه بقوله "وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ" وهذا على معنى السائل؛ السائل عن العلم والدين، وقوله "فَلا تَنْهَرْ" بمعنى رده ردا جميلا إما بعطاء وإما بكلمة طيبة وقول حسن. وبإزاء قوله تعالى "وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى" وصاه بقوله "وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ" قالوا النعمة هنا القرآن؛ فإنه أعظم ما أنعم الله به على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل تلك النعمة هي: النبوة؛ أي بلغ ما أنزل إليك من ربك، وقيل إذا عملت خيرا فحدث إخوانك ليقتدوا بك، بيد أن هذا يحسن إذا لم يتضمن رياءً وظن أن غيره يقتدي به، والتحدث بالنعم على كل حال شكر، وعن علي رضي الله عنه لما سئل عن الصحابة فأثنى عليهم وذكر خصالهم، فقالوا له حدثنا عن نفسك فقال: مهلا فقد نهى الله عن التزكية فقيل له أليس الله يقول: "وأما بنعمة ربك فحدث" فقال: فإني احدث كنت وإذا سئلت أعطيت وإذا سكت آبتديت وبين الجوانح علم جم فاسألوني وذكر هده الأمور الثلاثة من باب قضاء الدين المعنوي، وقضاء الدين واجب ويسقط عن الذمة بسداده، ولكن الدين المعنوي يجب عليك قضاؤه طوال عمرك، فكان العبد يقول إلهي خلقتني ورزقتني وهديتني وعافيتني وعلمتني وأحسنت إلي؛ فكيف يمكنني قضاء دينك علي الذي لا حد له ولا حصر... فيقول الله تعالى الطريق إلى ذلك أن تفعل في حق عبادي ما فعلته في حقك؛ إذ كنت يتيما فآويتك فتصرف مع الأيتام بمثل ذلك، وكنت ضالا فهديتك فافعل في عبادي الضلال مثل ذلك، وكنت فقيرا فأغنيتك فافعل في حق عبادي ذلك، ثم إن صنعت ذلك فاعلم أن صنيعك من توفيقي ولطفي وتيسيري، فكن أبدا ذاكرا لهده النعم والألطاف.