1. الشعراء الزهاد هم فئة ندرت إبداعها الشعري للزهد، وسارت سير الصالحين اقتداء بالنبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، فابتعدت عن بهرج الحياة، وما فيها من إغراءات، وقاومت رغائب النفس وميلها للشهوات، متمثلة قول النبي الكريم عندما سُئِل عن جهاد الأكبر "مجاهدة العبد هواه"[1]. وبدا ظهور أثر هذه المجاهدة جليا في نصوصهم التي عجّت بتحقير الدنيا والإعلاء من شأن الآخرة في أبيات سرت فيها نفحات الصدق والحكمة معا؛ ومن هؤلاء الشاعر العباسي أبو العتاهية الذي يقول عن الدنيا وسرعة زوالها وزهده فيها: ما أنتِ يا دنيا بدار إقامة ما زلتِ يا دنيا كفيْءِ ظلالِ وخفقتِ يا دنيا بكل بكيّةٍ ومُزِجتِ يا دُنيا بكل وبالِ[2]. ويقول مذكرا بالموت وسرعة إعماله في النفوس وتعطيله للحياة في الأجساد: ما أقطع الآجال للآمالِ و أسرع الآمال في الآجالِ[3]. كما يقول مستغفرا راجيا رحمة ربه وعفوه مستشعرا الخوف من كثرة ذنوبه: إلهي لا تعذبني فإني مقرٌّ بالذي قد كان مني ومالي حيلةٌ إلاَّ رجائي وعفوك إن عفوتَ و حسن ظنِّي[4]. 2. الشعراء التائبون هم شعراء أسرفوا على أنفسهم في التعاطي للملذات والتماس اللهو والمجون بمختلف أشكاله وصوره، غير مكترثين بنهي الشرع ولا ضوابط الدين، فقضوا معظم حياتهم في هذا النهج، وعبروا عن ذلك شعرا صراحا دون استتار أو خجل، لكنهم وفي أواخر أعمارهم أحسوا الندم الشديد، وأدركوا عظم ما ارتكبوه من الذنوب، فجاءت بعض أشعارهم طافحة بالحزن على ما سلف، والإلحاح على الاستغفار، مضمخة بالطابع الديني وأثر الإسلام الحنيف لغةً ومعنىً. ومن أبرزهم أبو نواس شاعر الخمرة الذي آب في أبيات كثيرة إلى الله تعالى بصدق بالغ، يقول: أيا ربِّ قد أحسنتَ عوْداً و بدْأةً إليَّ فلمْ ينهض بإحسانك الشُّكرُ فمنْ كان ذَا عُذْرٍ لديك و حجةٍ فعُذري إقراري بأن ليس لي عُذرُ[5]. كما أنه استشعر، فداحة ما أقدم عليه وما قادته إليه حياته اللاهية، فتبرم بالدنيا، وحاول أن ينبه إلى خطورة الانسياق وراءها، وعدم تمثل الموت وسرعة انقضاء الأعمار، وفي ذلك يقول: أُخَيَّ ما بالُ قلبك ليس ينقى كأنك لا تظن الموت حقًّا ألا يا ابن الذين فنوا و بادوا أما والله ما ذهبوا لتبقى وما للنفس عندك من مقام إذا ما استكملت أجلا و رزقا وما أحد بزادك منك أحظى ولا أحد بذنبك منك أشقى ولا لك غير تقوى الله زاد إذا جعلت إلى اللهوات ترقى[6]. 3. الشعراء والزهد المناسباتي كان الزهد لدى بعض الشعراء العرب مرتهنا بلحظات شدة كالمرض أو الاحتضار، حيث تغيب فيها الميول نحو الدنيا وتتجه الفكرة صوب الموت وما يستتبعه من عزلة وبعد عن الأهل وترك المال. ومن نماذج ذلك قصيدة مالك بن الريب الشهيرة التي منها قوله: تذكرت من يبكي علىّ فلم أجد سوى السيف والرمح الرُّدينيّ باكيا[7]. وقوله: يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا[8]. ولم تكن هذه النزعة الزهدية المناسبتية مقتصرة على القدماء، بل إنها امتدت لتشمل بعض رواد الشعر الحديث والمعاصر، حيث نضحت نصوصهم في لحظات المرض والإحساس بدنو الأجل بنبرة الزهد في الحياة وطلب المغفرة، يقول الشابي مثلا (1909-1934): ما الذي قد أتيت يا قلبي الباكي؟ وماذا قد قُلْتِه يا شفاهي؟ يا إلهي قد أنطق الهم قلبي بال ذي كان... فاغتفر يا إلهي[9]. ولبدر شاكر السياب نصوص شعرية في غاية الرقة يظهر فيها النفس الديني، والبعد الزهدي الواضح بما في ذلك من إظهار للخضوع للذات الإلهية و امتثال لقضائها وقدرها واعتبار المرض اختبارا للمؤمن فيها من النعمة أكثر مما تتضمنه من العذاب والنقمة، يقول الشاعر في قصيدة "سفر أيوب": لك الحمد مهما استطال البلاءْ ومهما استبد الألمْ لك الحمد، إن الرزايا عطاء وإن المصيبات بعض الكرم..[10] تكشف الإشارات السابقة جانبا من جوانب التأثير القوي للدين الإسلامي الحنيف على الإبداع الشعري، وهو تأثير على عكس ما توهم البعض، رفع من شأن الشعر وزانه بمعاني رقيقة تفيض محبة وخشية من الله تعالى، كما رقّى لغته الفنية ومعجمه، فأصبح يستند إلى مرجعية نصية غاية في الإتقان تجلت في القرآن الكريم ببيانه المُعجِز، والحديث النبوي الشريف. ولقد انعكست هذه المرجعية الدينية والفنية، بشكل واضح وإيجابي في عدد كبير من النصوص الشعرية الرائدة التي وسمها الزهد بسمات مميزة سواء تعلق الأمر بإنتاجات الشعراء الزهاد، أو التائبين بعد حياة صاخبة استشعروا معها الندم والخوف من عقابه تعالى، أو بنصوص زهدية مرتبطة بمناسبات بعينها شكل المرض والإحساس بدنو الأجل أبرزها. ------------------------------------------ 1. كتاب الزهد الكبير، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق الشيخ عامر أحمد حيدر، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996، ص: 165. 2. ديوان أبي العتاهية، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الرابعة، 2004، ص: 170. 3. المصدر السابق، ص: 179. 4. نفسه، ص: 223. 5. ديوان أبي نواس، حياته –تاريخه، نوادره- شعره، الكتبة الثقافية، بيروت، (د. ت)، ص: 140. 6. المصدر نفسه، ص: 191. 7. ديوان مالك بن الريب، تحقيق الدكتور نوري حمودي القيسي، منشورات مجلة معهد المخطوطات العربية، مج 15، ج: 1، ص: 90. 8. المصدر نفسه، ص: 93. 9. ديوان أغاني الحياة، أبو القاسم الشابي، دار صادر، بيروت ، 2007، ص:148. 10. ديوان بدر شاكر السياب، الجزء الثاني، دار العودة ، بيروت، 2005، ص: 297.