ماضي الأمة يعطينا مواعظ وعبرا، ويرسم لنا الطريق اللاحب للحياة السليمة، التي يجب أن تكتب بحروف من نور حتى تبقى ساطعة مضيئة للأجيال الطالعة المؤمنة بالحرية التي يدفعها في هذا الوجود الإيمان بما لها وعليها في نطاق اعتزازها بكرامتها وشرفها وإباء الضيم، وأنفة من الذل الذي يولد الخنوع والمهانة، وأحب الأسر إلى نفسي، هي تلك المحافظة على هذه المميزات في مشوار حياتها، وإن فقدتها فقدت قيمتها الإنسانية وبدون هذا فالحياة سراب في سراب. وكل فرد لا تحركه الإهانات، وينقاد لتمريغ كرامته مع المبصبصين الذين لا يعلمون أنهم بهذه المواقف المخزية يعرضون الأمة إلى حتفها، ولقد سئل "مارك توين" ما الحياة؟ فقال: "الحياة صورة إذا عرفنا كيف نرى الوجه الجميل فيها فقد عشنا وإذا لم نره، فخير لنا أن نبحث لأنفسنا عن حياة أخرى في كوكب آخر". وأنا لا أريد هنا أن أخوض في تحديد الوسائل العملية للمحافظة على عناصر الانطلاق للجهود المتصلة للتعرف على مرحلة الإحباط لتجاوزها وتدارك ما فات لتحقيق الذات، والانطلاق في سبيل مرسوم يحدد للأمة ذاتها دون أن ترتكس في مأزق الانغلاق والجمود، أو تنزلق في مطب التبعية والضياع والفناء مع الذين مالوا ميلا جامحا فانكشف عنهم الغطاء ثم رفضتهم الأمة، بل لفظهم الواقع، وأشاح عنهم العقلاء الوجوه، وفي هذا الجو المكهرب تابعت الأسر الواعية المسيرة الموفقة للسيطرة على أسباب تطوير الحياة الطبيعية بنور العقل وسلطانه نحو المعرفة والعمل، لمواصلة السير مصاحبين تطبيق مبادئ الإسلام وشريعته السمحاء على واقع متطور متغير، وتحديد ما ينفع من قيم الحضارة المعاصرة، وما لا ينفع، واستكناه تراث الأمة باعتباره سجل رصيدها، وذاكرتها الحضارية لصياغة وسائل معاصرة من الذات الإسلامية المواكبة لحركة التطلع إلى المستقبل. والتطعيم والتوفيق أضحيا اليوم ضرورة من ضرورات العصر، بدل هذا التعليب الذي جردنا من الزمان الذي تحياه الإنسانية في شرق الأرض وغربها، وحولنا إلى أصنام صنعها خيال عقيم لا يعرف كيف يتطور ويبدع مع العصر المتحرك لفتح آفاق يعقل الاختيار بقدرة تشق هذا الوضع الضحل من الركام الهائل من الرهق والقهر، والبحث عن المواهب الكامنة وراء الحجب لتعويض قرون الخمول والعجز والمهاترات بما هو أفضل وأمثل، والانفلات من السطحية والرتابة، التي أوقعنا فيها حفنة من المتاجرين الخارجين من قاع وأدنى ما في المجتمع من الذين روجوا للرذيلة والهبوط وبما يسطح الواقع ويتعسه، وما لا يحرك فكرا ولا يستثير خيالا للخلق والابتكار، وفتح الباب على مصراعيه لدعاة التخلف واتساع الفجوة بيننا وبين العالم الإنساني المتقدم، وحطوا بنا الرحال في منفى الزمان والمكان، فحق عليهم قول الله تعالى: "أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم أفلا يتدبرون القرءَان أم على قلوب أقفالها" [محمد، 24-25]. والخلاف الكبير والخطير في حياة الأسر هذه الفجوة العلمية بيننا وبين الماسكين بناصية الحضارة المعاصرة، ونحن نعيش قضايا متهرئة أوقعتنا في حمأة الفقر الفاحش، والأمية التي تغتال عقول الأجيال، والذهاب بها مع النفايات إلى بالوعة الفشل، فهام أكثرنا على وجهه في الشوارع والأزقة بحثا عن لقمة خبز يملؤون بها البطون االجائعة، لذلك يقول الواقع أنى يلتقي الفقر الموجع بالثراء الفاحش؟، وأنى لأمة بائسة أن تعرف الابتسامات إلى قلوبها؟ ومتى يلتقي الاستعلاء والاحتقار؟. والتخلف داء يحيل الأمم والشعوب إلى عزلة عن الدنيا تفصلها عن الحياة الراقية لا تعرف لمخنقها بداية ولا نهاية، ولا تستفيد بما هو قريب ومتاح، إنها أشبه بمن يبحث عن إبرة في جبل من التبن، هذه أمم وشعوب انقطعت صلتها عن الجذور والأصول، مكبلة بأثقال عاقت مسيرتها لم تعرف المهمة المقدسة التي تنتظر كل حي عاقل لا تعرف إلا الخنوع والانصياع يحق عليها قول الله تعالى: "أولئك كالاَنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" [الاَعراف، 179]. والأمر ليس بالهين أن تجد الأسرة التي تبحث عن الجو الخصيب الملائم للحياة، والباقيات عقيمات، إن هذه الاعتبارات الهامة يجب أخذها في الحسبان وإلا تبخرت كل الآمال، ولهذا فنحن مطالبون لوضع برامج طموحة نستطيع أن نتوصل إلى مرادنا للكشف عن الوسائل الذكية وهذا عمل يتطلب صبرا جميلا وجهدا كبيرا وتطورا في المعرفة والعلم هائلا، حتى نتمكن من منبع الحياة والرصد الكامل لكل ما حولنا، وبنظام صارم وبضبط وانضباط، ويوم نجد الأسر التي تحتضن الأجيال لتزيح عنها الهموم النائمة فوق حبات القلوب، هموم مثل أمواج البحار البعيدة العميقة، هي الدور التي تأويها والقلوب الحانية التي نشرب من معينها، والأسوار التي نستند إليها، فهي أماكن السعادة في هذا العالم المتوتر، وبهجة المحزونين وواحة المكروبين وأمان الخائفين، وأمل كل من هدهم التعب، وأضناهم البحث عن لقمة العيش الساخنة لسد رمق البطون الفارغة، ولولا مثل هذه الأسر لما استطاعت هذه الأجيال أن تتخفف من جبال الهموم الجاثمة فوق الصدور المعلقة من رموش الأعين الدامعة. لقد سدت عن الإنسانية عين الشمس بأبواب من حديد، ولولا هذه الأسر التي هيأها الله عز وجل لتكون بمثابة مفاتيح لما رأى نور النهار من شدة الظلام الذي لفهم ليل نهار، ولولاها لاختفى الأمان، ومن الحق أنها عرفت كيف تعب من الموارد التي جاء بها من سبقوا للإنسانية بالطريف العجيب، وأنها عنها تأخذ، وأنه يجب أن نعب من تلك الموارد عبا لا لصالح الشرق ولا لصالح الغرب وإنما لصالح الأجيال وصلاح الأمة، وهو أمر لابد منه لصالح الإنسان، واستقرار السلام على هذه الأرض، وإذا فعلنا هذا حققنا رجاء الله فينا الذي يقول سبحانه: "وإِذ قال ربك للملائكة إِني جاعل في الاَرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون" [البقرة، 29]، إن أمتنا اليوم تمثل واجهة التفاعل والتأثر والتأثير، وما من قوة على وجه الأرض إلا وبدأت مسيرتها نحو التقدم والشموخ من واقع العزلة والتخلف الحضاري، كما نريد أن نبدأ ولكن شتان بين بداية وبداية.. وإذا كانت الحياة يتجاذبها قلة من المسعفين والأغلبية من المتلفين، وإذا ضاعت السعادة في الفواتح، وتقاذفتها الضوائق وخارت للنوائب، وذابت من البأساء والتبجح العقيم ولقد صدق من قال: "إذا أدبرت الدنيا سلبت أهلها محاسن أنفسهم وأضفت عليهم مساوئ غيرهم". والمستقبل يحتاج إلى عالم متفاهم والمستقبل يحتاج إلى عمل منظم، وفي غياب ذلك فالفشل لنا وللأجيال من بعدنا بالمرصاد، هذا النفق الطويل المظلم الذي أدخلت فيه حياة الأمة حتى كادت تفقد فيه سلامة الحواس فتولد الواقع المأساوي الذي نعيش آثاره، وتستقر في أنفسنا أسقامه وعلله ونتنفس جراثيمه أوهاقا وراء أوهاق، لخنق الطاقات وتقليص فاعليتها، وتهميش حركتها لتدجين الأجيال، وتوجيهها إلى غير صالح أمتها وإنسانيتها ورسالتها الحضارية وصدق الله العظيم إذ يقول: "إن الذين كذبوا بأَياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبوابُ السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين لهم من جهنم ميهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين" [الاَعراف 39-40]. والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل