التصوف على "طريقة الجنيد السالك" حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ المبدأ الخامس في طريق التصوف: الإتيان بالفرائض ثُم النوافل: بعد ذكر التوبة والتقوى، وصحبة الشيخ العارف بالله، ومحاسبة النفس على الأنفاس والخواطر، يأتي الناظم إلى التنبيه على مبدأ خامس في السلوك وهو المحافظة على الفرض والنفل، فيقول: وَيَحْفَظُ الْمَفْرُوضَ رَأْسَ الْمَالِ وَالنَّفْلَ رِبْحُهُ بِهِ يُوَالِي يُشير الناظم إلى أن السالك وهو في تجارته مع الله تعالى، ليس له شيء يوجب ربحه وقربته إليه عز وجل مثل الفرائض، فهي بمثابة رأس ماله، وتضييعها موجب لخسرانه. ثُم يرشد الناظمُ السالكَ إلى المحافظة على النوافل بعد إتيان الفرائض، وسماها رِبحاً لأنها زائدة على رأس المال، وهي التي توجب محبة الله لعبده؛ فالإتيان بالفرائض على الوجه الأكمل، وإتباعها بالنوافل، هو ما أشار إليه الحديث القدسي: ".. وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.."[1]، وهو كناية عن غاية الحفظ والتولي، فلا يكله إلى نفسه طرفة عين. فالنوافل مرتبتها أدنى، لكنها إذا اجتمعت مع الفرائض حققت للعبد شيئاً عظيما؛ حيث يصير الله له سمعا وبصرا ولسانا ويدا ومؤيدا، يصير مسدداً في أقواله، وأفعاله، وسمعه، وبصره، ومستجاب الدعاء.. قال ابن عطاء الله في لطائف المنن: "اعلم رحمك الله أن الله لم يأمر العباد بشيء وجوبا، أو يقتضيه منهم ندبا إلا والمصلحة لهم في فعل ذلك الأمر، ولم يقتضي منهم ترك شيء تحريما أو كراهة إلا والمصلحة لهم في تركه. أمرهم بتركه وجوبا أو ندبا،.. ثم إنا نظرنا فرأينا كل مأمورية، أو مندوب إليه يستلزم الجمع على الله تعالى، وكلَّ منهي عنه أو مكروه يتضمن التفرقة عنه، فإذا مطلوب الله من عباده وجود الجمع عليه، لكن الطاعات هي أسباب الجمع ووسائله. فلذلك أمر بها، والمعصية هي أسباب التفرقة ووسائلها، فلذلك نهى عنها"[2]. والنوافل هي كل ما زاد عن الفرض من العبادات المستحبة، صلاة كانت أو صياما أو حجا أو صدقة أو ذكرا.. أو غير ذلك، وسميت كذلك باعتبار أنها زائدة على الواجب. وفهم من قوله: "به يوالي"؛ أن المطلوب الابتداء بالفرض، وألا يشتغل بطلب فضل حتى يفرغ من فرض؛ لأن الفضل أو الربح لا يحصل إلا بعد حصول رأس المال، قال ابن حجر في الفتح: "المراد من النوافل: ما كانت حاوية للفرائض، ومشتملة عليها، ومكملة لها، ولذا قال بعض أهل العلم: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور"[3]، وقال صاحب الحكم: "من علامات إتباع الهوى المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات". وعبارة: "وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل"، في الحديث المتقدم، تفيد الاستمرارية والتكرار، وهو ما يوجب للعبد وجود الحب من الله، أي أن في النوافل من المصلحة ما في الفرائض، وأنها تستلزم الجمع على الله؛ فالاقتصار على الواجبات وترك نوافل الخيرات إنما هو حال الضعفاء. ففي ما رواه البخاري في صحيحه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَحَبُّ الأَعْمَالِ إلى الله أَدْوَمُهَا وَإنْ قَلّ"[4]، وسئلت عائشة رضي الله عنها عن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كان عمله ديمة"[5]، أي: دائماً ، والديمة في الأصل: المطر المستمر. قال ابن حجر العسقلاني في شرحه للحديث: "المداومة على عمل من أعمال البر ولو كان مفضولاً أحب إلى الله من عمل يكون أعظم أجراً لكن ليس فيه مداومة"[6]. وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي أن الحديث فيه إشارة إلى أن أحب الأعمال إلى الله عز وجل: "ما داوم عليه صاحبه وإن كان قليلاً، وهكذا كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل آله وأزواجه من بعده وكان ينهى عن قطع العمل"[7]. -------------------------------------------- 1. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، ح: 6502. 2. لطائف المنن، ص: 23-24. 3. فتح الباري، (11/351). 4. صحيح البخاري، ح: 5413. 5. صحيح البخاري، كتاب الصوم، ح: 1851. 6. فتح الباري، (11/336). 7. المحجة في سير الدلجة، (4/409).