التصوف على "طريقة الجنيد السالك" حَسب ما سُطِّر في منظومة فقيه القرويين ابن عاشر، ووِفق ما تَوارث في الأمة، يتقعّد على ثمانية شروط ومبادئ: المبدأ الثاني في طريق التصوف: التقوى: بعد الحديث عن الجوارح السبعة التي هي بمثابة منافذ للقلب، وأهميتها في التقوى والسلوك، ينبِّه الناظم رحمه الله على معرفة حكم الله في الأمور قبل مباشرتها، فيقول: وَيُوقِفُ الأمورَ حتَّى يَعْلَمَا ما اللهُ فيهِنَّ بِهِ قَدْ حَكَمَا يشير الناظم إلى أن السلوك إلى الله تعالى لا يتأتى إلا بما يوافق شرع الله، وعلى السالك الذي يبتغي مرضاة الله أن يتوقف عن الأمور ولا يرتكبها حتى يعلم حكم الله فيها؛ لأن الله لا يعبد بجهل؛ فإن أذِن له الشارع في ذلك فذاك، وإن منعه فليتركه، لذلك كان عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه يقول: "لا يَبِعْ فِي سُوقِنَا إِلا مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّين"[1]، وقالَ عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "مَن اتَّجَرَ قبلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ ارتطَمَ فِي الرِّبَا، ثُمَّ ارتطَمَ، ثُمَّ ارتطَمَ"[2]؛ أي: وقع في الربا، وعلى مثل هذا فقِس في كل العبادات والمعاملات؛ لأن الجهل ليس بعذر، قال الله تعالى: "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ" [الاِسراء، 36]. وجاء في الحديثِ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنه قال: "طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ"[3]، وقد بيَّنَ العلماءُ رحمهم الله العلمَ الواجبَ وجوبًا عينيّاً، وتكلموا في المقدارِ الذي هو فرضُ عينٍ على كل مسلمٍ تعلُّمُه. قال ابنُ عبدِ البر: "والذي يلزمُ الجميعَ فرضُه من ذلك: ما لا يسعُ الإنسانَ جهلُه من جملةِ الفرائضِ المفترضةِ عليه"[4]. وقال ابنُ عابدين نقلاً عن العَلاميّ: "وفرضٌ على كلِّ مكلّفٍ ومكلّفةٍ بعدَ تعلّمِه علمَ الدينِ والهدايةِ، تعلُّمُ علمِ الوضوءِ والغسلِ والصلاةِ الصومِ وعلم الزكاة لمن له نصاب، والحجّ لمن وجب عليه، والبيوعِ على التّجّارِ ليحترزوا عن الشّبهاتِ والمكروهاتِ في سائرِ المعاملاتِ، وكذا أهلِ الحِرَفِ. وكلُّ من اشتغلَ بشيءٍ يُفرَضُ عليه علمُه وحكمُه ليمتنعَ عن الحرامِ فيه"[5]. وقال الغزاليُّ رحمه الله: "كلُّ عبدٍ هو في مجاري أحوالِه في يومِه وليلتِه لا يخلو من وقائعَ في عبادتِه ومعاملاتِه عن تجددِ لوازم عليه، فيلزمُه السؤالُ عن كلِّ ما يقعُ له من النوادرِ، ويلزمُه المبادرةُ إلى تعلُّمِ ما يَتَوَقَّعُ وقوعَه على القربِ غالبًا"[6]. ومن كلام الإمام الجزولي رحمه الله في أهمية تعلم العلم: "العلم دواء والجهل داء، العلم ولاية والجهل عداوة، العلم صفة المؤمنين والجهل صفة الكافرين"[7]. وقد جعل الصوفية الكرام علم الإخلاص ومعرفة الخواطر، من العلوم التي يعتبر طلبها فريضة على كل مسلم؛ لأنها أصل الفعل ومبدؤه ومنشؤه، وبذلك يعرف الفرق بين لمة الملك ولمة الشيطان، فلا يصح الفعل إلا بصحتها، قال الشيخ أبو طالب مكي[8]: "هو علم الفرائض الخمس التي بني الإسلام عليها، وعلم التوحيد داخل في ذلك، وكذا الإخلاص لأنه من ضرورة الإسلام. وقال الإمام السهروردي: "وميلي في هذه الأقاويل إلى قول الشيخ أبي طالب أكثرها. وقد حكى العلامة الصوفي الإمام الغزالي في الإحياء: "أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على أمر، حتى يعلم حكم الله فيه، ثم معرفة حكم الله، إما بالنظر في الأدلة أو في كتب العلم، إن كان أهلا لذلك"[9]. وإن لم يكن أهلا لذلك وجب عليه السؤال لأهل العلم، لقوله تعالى: "فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُوْن" [النحل، 43]. فأمَر سبحانه بسؤال أهل الذكر، والأمر للوجوب، وأهل الذكر هم أهل العلم بدين الله تعالى وأحكامه من الحديث والفقه ونحوه، وقد قيل: "مفاتيح العلم السؤال". وقد سُئل سهل بن عبد الله: "يا أبا محمد، من العلماء؟ قال: الذين يؤثرون الآخرة على الدنيا، ويؤثرون الله على أنفسهم"، وقال عمر في وصيته: "وشاور في أمرك الذين يخشون الله تعالى، فيجب عليه أن يسأل عن وجه خلاصه في جميع أموره، حتى يكون على الاستقامة، وأن يتعلم جميع ما يحتاج إليه، ثم يعمل بما علم"[10]. قال الإمام المالكي الكبير شهاب الدين القرافي في كتابه "الفروق": "إن الغزالي حكى الإجماع في إحياء علوم الدين والشافعي في رسالته حكاه أيضاً في أن المكلف لا يجوز له أن يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله فيه، فمن باع وجب عليه أن يتعلم ما عينه الله وشرعه في البيع، ومن آجر وجب عليه أن يتعلم ما شرعه الله تعالى في الإجارة، ومن قارض وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في القراض، ومن صلى وجب عليه أن يتعلم حكم الله تعالى في تلك الصلاة، وكذلك الطهارة وجميع الأقوال والأعمال، فمن تعلم وعمل بمقتضى ما علم فقد أطاع الله طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين، ومن علم ولم يعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله تعالى طاعة وعصاه معصية"[11]. يُتبع.. -------------------------------------------------------- 1. رواه الترمذي في السنن، ح: 487. 2. مغني المحتاج، 2/22. 3. رواه ابن ماجة في السنن، ح: 224. 4. جامع بيان العلم، (1/57). 5. الموسوعةِ الفقهيةِ، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الكويت، ط1، 1407ه، (30/293). 6. إحياء علوم الدين، (1/34). 7. المصدر السابق نفسه، 5/72. 8. هو محمد بن علي عطية الحارثي، المكي، أبو طالب: صوفي، متكلم، مالكي المذهب من تصانيفه: "قوت القلوب في معاملة المحبوب"، توفي سنة 386 ه، انظر هدية العارفين، 2/55. 9. الإحياء، 2/312. 10. غيث المواهب العلية لابن عباد الرندي، ص: 276. 11. الفروق للقرافي، دار السلام، 2001م، 2/148.