قال الله تقدست أسماؤه: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ اَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا" [الشمس، 7-10]. من سعادة المرء أن يخرج من هذه الدنيا وقد أدى ما عليه من حق الله تعالى وحقوق الناس. ومن سعادته أن يُختم له وقد أدى أمانته، وأنجز ما طلب منه، وخلق لأجله، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقطع عقبات النفس، ومحو آثارها ودواعيها، حتى تصفو وتطهر من ذلك، وتحصل لها أهلية القرب من الله تعالى، وتصل إلى سعادة لقائه؛ فإن النفس هي الحجاب الأعظم للعبد عن الله تعالى؛ وأنه إذا جاهدها وغالبها نال سعادة الدارين. ولذلك قالوا: ما الحياة إلا في الموت أي ما حياة الأرواح إلا في إماتة النفس، وقيل: النعمة العظمى، والراحة الكبرى الخروج عن النفس، ولا يمكن الخروج من النفس بالنفس، وإنما يكون الخروج من النفس بالله تبارك وتعالى، ثم يشتغل بمراعاة شرعه في ظاهره وباطنه ويلتزم ذلك ما استطاع. فعمل الظاهر إن كان واجبا، فليبادر إلى فعله ولا يتوان عنه، وليقم بجميع آدابه اللازمة له، وليلحق بالواجب ما كان مندوبا إليه، وليقدم في العمل بالمندوبات التي تعترضه الأولى فالأولى، والأهم فالأهم. وليأخذ في هذا الركن بالقصد من غير إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير كما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا، وإن أفضل العمل أدومه وإن قل". وإن كان التصرف حراما فليبادر إلى تركه واجتنابه، وليقطع عن نفسه جميع أسبابه ومقدماته، وهذا معنى نهي الشارع عن المكروه. وإن كان التصرف مباحا، فليقف على حدود الضرورة منه حتى يكون وقوفه على ما لا بد له منه على وجه الطاعة والقربة لا على سبيل الهوى والشهوة. ويتعين على المؤمن الراشد في مجاهدته أن يمنع حواسه، ويكف جوارحه عن التطلع والجولان في مظانّ وجود شهوته وسيء عاداته، وألا يطاوعها ويوافقها في ذلك، فإن ذلك أصل كل شر، ومنبع كل فساد كما قال الشاعر: إن السلامة من سلمى وجارتها ألا تمر على حال بواديها فليراقب ربه وليحفظ جوارحه ونيته وقلبه؛ فإن الإنسان قد يتحرك لطلب الخير والعمل من أعمال البر، فيتفق أن يقع بصره على شيء له فيه هوى، فتميل نفسه إليه، فيتكدر عليه حاله ويسود قلبه، فيختل عليه في لحظة ما كابد أمر إصلاحه في سنة. فإذا أردت أن تستريح وتسلم، فلا تقترب، وقد شبه العلماء رضي الله عنهم النفس في هذا المحل بدابة استعارها رجل من صاحبها ومالكها، وكانت جموحة صعبة المراس، فجاز بها المستعير في بعض حاجاته على دار مولاها، فنزعت إلى دار سيدها فإنه لا محالة يحتاج إلى صرف لجامها؛ فإن تقاعست ضربها بالسوط، حتى يصرفها بذلك عما نزعت إليه. وسبب ذلك إنما هو مروره بها على دار مولاها الذي ألفته واعتادته، ولو لم يمر بها عليه لسلم واستراح ولم يحتج إلى معاناة ولا مكابدة، فكذلك حال النفس: فالنفس إن أعطيتها هواها فاغرة نحو هواها فاها فلذلك كان الابتعاد عن الأسباب المكروهة والأبواب المدخولة من أوجب الواجبات؛ فإن نفس المؤمن إذ ذاك تكون ساكنة هادئة قد نسيت عوائدها وفترت دواعيها، وبمداومتها على ذلك يحصل له من التزكية والاستقامة والطمأنينة ما هو الغرض الأكبر من المجاهدة، فإذا جوهدت النفس مدة على هذا النحو رجعت عن جميع مألوفاتها وعاداتها السيئة، وزال عنها النفور والاستكبار، ودانت لمولاها بالعبودية والافتقار، وتزكت أعمالها وصفت أحوالها، وهذه هي الغاية التي خلقت لأجلها، وميزتها التي شرفت من قبلها؛ وإنما ألفت سوى ذلك لمرض أصابها من الركون إلى الدنيا، وصارت بذلك مطمئنة صالحة لأن يقال لها: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي" [الفجر، 30-32]. قال بعض المفسرين: "النفس المطمئنة هي التي تخلصت من السوء ولم يبق بينها وبين السوء نسبة".