بناء على ما ذكرنا في العدد السابق من جريدة ميثاق الرابطة (العدد67) فقد قسم العلماء المصالح من حيث مدى أهميتها ودرجة الاحتياج إليها والتوقف عليها إلى الرتب الثلاث السالفة الذكر، وبذلك وضعوا صورة تقريبية لسُلَّم المصالح وترتيبها، وعملوا على تحديد أمهات المصالح وأصولها الرئيسةِ. وبالنظر في نصوص الشريعة واستقراء أحكامها ودلالاتها، توصلوا إلى أن كبريات مقاصد الشريعة وأمهات المصالح التي تدور الأحكام الشرعية على حفظها ورعايتها، هي التي اشتُهرت باسم الضروريات الخمس، ويسمونها الكليات الخمس أو الأصول الخمسة، وهي التي سبقت الإشارة إليها سابقا، ولكنا نعيد سردها حسب هذا السياق للمزيد من البيان والتوضيح، وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال؛ ومنهم من يرتب العقل قبل النسل، ومنهم من أضاف العرض إلى هذه الخمسة. وإذا أردنا أن نقرب الأفهام من مراتب المصالح، فلا نجد أقرب من منظومة المرافق على الموافق: أما الضرورية فهي لقيام مصالح الدين ودنيا قد ترام بحيث قل إن فقدت لم تجر مصالح الدين ودنيا فادر وحفظها يجب بالذي يقيم وجودها ويدفع العدم مديم وهي خمسة فدين نفس والنسل والمال وعقل سوا وحاجيات هي من يفتقر إليه في توسعة تشتهر ورفع تضييق يؤدي للحرج مع المشقة لكل من درج تكون في عبادات وعادات معاملات وكذا الجنايات وجاءنا التحسين في محاسن عاداتنا لخائف وآمن مثل الطهارة لدى العبادات ومثل حسن الأكل في العادات ومنع بيع النجس في المعاملات والحر لا بالعبد في الجنايات[1]. 2. فالمصالح الضرورية هي التي يضطر الناس إليها، وتتوقف عليها حياتهم وبها تقوم مصالح الدين والدنيا، وفي تفويتها ضياع لهما، يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "المضطر الرجل يكون بالموضع لا طعام فيه معه، ولا شيء يسد فورة جوعه من لبن وما أشبهه، ويبلغه الجوع ما يخاف منه الموت أو المرض -وإن لم يخف الموت- أو يضعفه أو يعتل، أو يكون ماشيا فيضعف عن بلوغ حيث يريد، أو راكبا فيضعف عن ركوب دابته، أو ما في هذا المعنى من الضرر البين"[2]. وقد وقع بين العلماء تقديم أصل على أصل في ضرورة التنزيل على ما يقع للناس من حوادث. ومن بين أمثلة تقديم أصل الدين على أصل النسل مثلا، ذكر صاحب أصول الفتيا أنه: "لا يحل نكاح الأَمة إذا كانت على غير دين الإسلام، أكانت كتابية أم مجوسية، ولا يحل ولاء المجوسية حتى تسلم، لا بعقد نكاح ولا بملك يمين"[3]. وإذا كان القصد الأصلي من النكاح هو تكثير النسل، فقد قدم ابن حارث أصل حفظ الدين من زواج المسلم بالْأَمَةِ المجوسية أو الكتابية حفاظا على دينه مع أن النكاح قد يكون واجبا عليه. وعن حفظ الدين وتقديمه على حفظ النفس والمال، نجد ابن عبد البر يقول في تارك صلاة الجمعة ثلاث مرات متواليات: "ومن ترك الجمعة ثلاث مرات متواليات من غير عذر سقطت شهادته، وقد قيل مرة واحدة عامدا من غير عذر تسقط الشهادة، والأول أولى إن شاء الله تعالى"[4]. فترك شهادة من ترك صلاة الجمعة تهاونا تقديم لأصل الدين على أصل النفس والمال؛ لأن شهادة الرجل تكون عادة في الأموال أو في الأنفس. ويرى ابن عبد البر وغيره من العلماء أن الكافرين إذا أسلم أحدهما دون الآخر، يفرق بينهما حفظا للدين، وإن تعارض مع النسل وهو مقصد الزواج والنكاح. يقول: "قال أبو عمر: لم يختلف العلماء أن الكافرة إذا أسلمت ثم انقضت عدتها أنه لا سبيل لزوجها إليها إن كان لم يسلم في عدتها، إلا شيء روي عن إبراهيم النخعي شذ عن جماعة من العلماء"[5]. وقد ذهب ابن حارث الخشني إلى ربط أحكام بعض المعاوضات من حيث الجواز وعدمه، بمدى تحقيقها لمقصد حفظ المال، وجعله مناطا لها، حيث قال في مسألة السلم في الطعام: "وإذا أسلم في طعام موضع بعينه أو في عروضه، فهو جائز إن كان مأمونا، وإن كان غير مأمون فلا يجوز"[6]. فهو هنا أَعْمَلَ مقصد حفظ المال في حال تقديمه على ما هو أدنى منه. وقبله نجد عبد الملك بن حبيب يؤسّس لهذه المفاهيم بعقلية المفكر الرصين، يقول: "وينبغي للمسلم والمسلمة أن يتطهرا كل يوم جمعة، ولو بلغ ذلك الطهور دينارا؛ فإن الذنوب تتساقط عنهما بذلك الطهر، كما تتساقط أوراق الشجر"[7]. فحفظ الدين مقدم على حفظ المال، ولا سبيل للمال إذا ضاع الدين، وهذه رؤية مقاصدية من زاوية اعتبار الترتيب في الضروريات. وقال ابن حبيب: ولا زكاة في الدراهم المغشوشة[8]. حفاظا على دينه، وكأنه بهذا الفرع ينسج خيوط هذه المفاهيم ليأتي من بعده فيستكمل استجماع الحلقات وبناء النظريات. وقال أيضا: "إن خافت على نفسها[9] فلتفطر ولا تطعم، وإن خافت على ولدها أطعمت مدّا لكل يوم، وإن أمنت في الوجهين فلا تفطر". وقال[10]: "إذا أفطرت وأمكنها القضاء فأفطرت حتى دخل رمضان آخر، فلتطعم عن كل يوم مدّين: مد للرضاع، ومد للتفريط"[11]. كما أن الضروريات تقوم من حيث الدين في حفظها بالوجود بتشريع ما يقيمها، فترك التيمم مثلا قد يفوت الصلاة، وتشريعه بدل الماء يقيم الفرض، ولا يضيع ضرورة من الضرورات؛ فإن "كل من عدم الماء فلم يجده بعد طلبه، ولا قدر عليه، جاز له التيمم في الحضر والسفر، وإن أدرك هذا خاصة الماء في الوقت أعاد استحبابا، ولا يتيمم أحد في حضر لخوف فوت الصلاة على الجنازة، ومن رجا الماء من المسافرين لم يتيمم عند مالك إلا في آخر الوقت، استحبابا ومن يئس منه تيمم في أول الوقت، ومن كان بين الراجي والخائف يتيمم، وقد استحب من أصحاب مالك التيمم في وسط الوقت للجميع"[12]. ومن الضروريات أيضا مسألة الانتفاع بما وقع فيه فأرة، مما يمت بصلة إلى حفظ المال، ومع أنه محرم استعماله جاز استخدامه صابونا حفاظا على مال الإنسان، إذ إن "كل زيت أو سمن وقعت فيه فأرة؛ فإن كان جامدا، ألقيت الفأرة وما حولها، وطاب سائر ذلك، إلا أن يعلم أو يظن أن الجمد إنما دخل في السمن والزيت بعد سقوط الفأرة فيه، فحكمه حكم الذائب أن يلقى جميعه، وقد اختلف في الانتفاع به إذا حرم أكله. فقال ابن الماجشون: لا ينتفع به للاستصباح ولا لغيره. وقال ابن حبيب: لا بأس أن يستصبح بهما أو يتخذا صابونا"[13]. أما في الحاجيات، فانظر إلى مسألة تكفين النساء، وكيف "أجاز ابن حبيب أن يكفن في الحرير والخز المعصفر النساء دون الرجال؛ لأن ذلك من لباسهن في الحياة"[14]. أما ابن يبقى بن زرب فيمثل لمضمار الحاجيات أنها "لا تجوز الوصية إلى مسخوط، ولا إلى غير عدل، ولا إلى غير دين الإسلام، وروي عن ابن القاسم في المسلم يوصي للنصراني: لا يجوز، إلا أن يرى السلطان لذلك وجها فيجيزها"[15]. وذلك بالنظر إلى الحاجة إليها. وعن الحاجيات أيضا اجتمع ابن حارث وابن رشد في قضية كراء الدار مشاهرة، فجاء بهذا الصدد أن "كل من اكترى داره مشاهرة، فلرب الدار أن يخرجه متى شاء، وللمكتري أن يخرج متى شاء.قال ابن الماجشون مثل ذلك، إلا أنه قال: يلزمهما الشهر الأول[16]. وقال ابن رشد[17]: "إذا عقد الكراء لمدة معينة معلومة، لزم العقد الطرفين جميعا، ولم يكن للمكتري أن يخرج متى شاء، ولا لصاحب الدار أن يخرجه قبل تمام المدة، إلا أن يشترط المكتري أن يخرج متى شاء، فيجوز ذلك ما لم ينفذ بشرط ولا طواعية، لأنه كراء بخيار"[18]. فالسكنى من قبيل الحاجيات التي ترفع الحرج عن الناس، لذا فالعقود المرتبطة بها تحفظ هذا المقصد وتبين ماهيته. وأما التحسينيات، فنجد توجيه الباجي لحديث "مَنْ أَكَلَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَلاَ يَقْرَبْ مَسَاجِدَنَا يُؤْذِينَا بِرِيحِ الثَّوْمِ"[19]، يرفعه عن حكم الحظر والإباحة ليجعله أمرا تحسينيا يكمل به المرء دينه ويحسنه، وهو في ذلك يقول: "قوله: "من أكل من هذه الشجرة" لا يقتضي إباحة ولا حظرا، فقد يرد مثل هذا اللفظ في الحظر كقوله: "مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا"[20]، ويرد مثله في الإباحة كقوله: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"[21]، وإنما ذلك شرط يتنوع بتنوع جوابه"[22]. والحمد لله رب العالمين ------------------------------------------------ 1. المرافق على الموافق، ماء العينين، ص: 153-154، (م. س). 2. الأم، الشافعي، (م. س)، 2/276. 3. أصول الفتيا، ابن حارث، ص: 169، (م.س). 4. الكافي، ابن عبد البر، 2/895، (م. س). 5. التمهيد، ابن عبد البر، 12/23، (م. س). 6. أصول الفتيا، ص:118، (م.س). 7. الواضحة، ابن حبيب، ص: 305، (م. س). 8. الواضحة، ص: 306، (م. س). وانظر الجواهر الثمينة، 1/101. 9. يقصد الحامل. 10. في المرضع. 11. الواضحة، ص:307. (م. س). وانظر جامع ابن يونس، 1/221. 12. الكافي، 1/180، (م. س). 13. أصول الفتيا، ص: 109، (م. س). 14. الواضحة، ص: 303. (م. س). وانظر البيان والتحصيل، ابن رشد، 2/298. (م.س). 15. الخصال، ابن زرب، ص: 226، (م. س). 16. أصول الفتيا، ص: 149، (م. س). 17. هامش 16. 18. المقدمات الممهدات، ابن رشد، 3/445، (م. س). 19. رواه مسند أحمد، 30/87. المنتقى، الباجي، 1/29، (م. س). والطبراني في الأوسط. 20. رواه مسلم، 1/265. وابن ماجة، 6/477. والبيهقي، 5/355. 21. رواه مسلم في فتح مكة، 9/249-250. وأبو داود، 8/256. 22. المنتقى، الباجي، 1/59، (م. س).