إن التحليل الجزئي والخاص لا يفي بالحل وحده، بل لابد من تحليل كلي وشمولي لظاهرة الأزمة المالية العالمية الكبرى التي هزت الاقتصاد النموذجي الذي تقوده الولاياتالمتحدةالأمريكية، مما أدى إلى تضرر الاقتصاد العالمي المتّبِع للاقتصاد النموذجي الأمريكي المتّبَع استنادا إلى واقع -التعلق المادي- أو تقول التعلق الاقتصادي؛ فإن التحليل الشمولي والكلي للأزمة المالية العالمية يقتضي النفوذ إلى عمق الأزمة وباطنها لا الانكفاء على ظاهرها. وعن وجه إضافة الأزمة إلى المال نتساءل: من هو الطرف -المبدع- لهذه الأزمة؟ من المعلوم أن الكلية الضرورية التي نالتها الأزمة هي كلية المال؛ لذلك نعتت الأزمة بالمالية من هذا الوجه، فالمال لم يتسبب في الأزمة لا تنظيرا ولا تطبيقا، وإنما هو وسيلة لتحصيل المصالح والمنافع للإنسانية، وهو مستخدَم لا مستخدِم والمستعمل والمستخدم لهذه الكلية الضرورية هو الإنسان، فوجب استبدال الأزمة الإنسانية مكان الأزمة المالية؛ لأن الأزمة المالية مظهر من مظاهر الأزمة التي تعيشها الإنسانية المعاصرة والتي تتجدد في كل زمان في مظاهر وتجليات متنوعة ومختلفة. فالأزمة المالية العالمية كانت تخفي في عمقها أزمة إنسانية متجددة، يحياها الإنسان المعاصر في عمقه ووجدانه. فالجشع والطمع والكذب والخيانة والغش والتدليس والاحتيال والاحتكار والاستغلال والتفنن في آليات وأساليب الظلم[1]، كلها تبين وتبرز وتظهر أزمة الإنسان المعاصر القيمية. والذي بقيمه -يبدع- الأزمات تلو الأخرى في مجالات اشتغاله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية... بحيث يبث الضرر لا النفع، ولا ينفع غيره إلا في طريق تحصيله لمطلوباته وحظوظه. وهذا راجع بالأساس إلى القيم المنتشرة في أعماقه. فالجشع والطمع يدعو إلى استعجال الاغتناء المادي بالمعاملات غير الأخلاقية، واستخدام الحيل المتاحة قصد امتلاك أكبر قدر ممكن من الدنيويات التي صارت صنما محبوبا لديه. والكذب والخيانة والاستغلال والغش وغيرها من القيم الضارة والفاسدة، تدفع الإنسان إلى الاستحواذ مثلا على مالا يملك من مدخرات المودعين، وغصب حقوق المساهمين، والاغتناء بأموال المتعاملين مع المؤسسات المالية. وإذا ثبت أن الأزمة المالية العالمية هي مظهر لأزمة الإنسانية، فقد وجب تحليل الأزمة الإنسانية بتجلية أسبابها ومصادرها. لقد تقدمت الإشارة إلى أن القيم الضارة التي يحملها الإنسان المعاصر والتي يتفاعل بها مع العالم من حوله، تنبعث من أعماقه وداخله لا من خارجه، ومن باطنه لا من ظاهره، ومن معناه لا من حسه، ومن روحه لا من جسمه. وهذا يجلي حقيقة الخلل الداخلي للإنسان، وكأنه يحيي خللا روحيا وفقرا معنويا. وهذا يجلي السبب الأول للأزمة الإنسانية ويمكن تسميته: الفقر المعنوي؛ السبب الثاني: لما كان سريان الأزمة المالية إلى العالم راجع إلى مبدأ التعلق المادي-الذي مفاده أن اقتصاديات الدول مترابطة ومتشابكة ومتداخلة فيما بينها ومتعلقة بالأنموذج الاقتصادي الأمريكي، فذلك يقتضي أمرا، وهو أن دخول الخلل على الأنموذج المتبَع يؤدي بالتبع إلى دخوله على المتّبِع؛ لذلك نفهم سر اهتزاز اقتصاد مختلف دول العالم؛ فإن افتقار الإنسان المعاصر إلى التعلق الروحي -الذي يقضي بضرورة الاتصال بالأنموذج الإنساني الكامل- أدى به إلى القلق النفسي، والتأزم الباطني، والانتحار الفردي. وإذا كان هذان السببان هما محور الداء عند الإنسانية المعاصرة، فقد وجب البحث عن الأنموذج الإنساني الكامل الذي جمع بين الغنى المعنوي عوض الفقر المعنوي، وبين التعلق الروحي عوض التعلق المادي. وقد استفاض وانتشر وذاع خبر حادثة شق صدر[2] رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي تشير إلى الداخل والعمق الإنساني، بحمولته التي تقتضي تزكية تثمر غنى معنويا. كما تواتر الخبر واشتهر على إتباع الإنسانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلقها به، واتخاذه أنموذجا من لدنها في جميع أمورها الروحية والمادية والدينية والدنيوية فتحصل لديها معنى التعلق الروحي. ولما كانت الإنسانية في بداية الزمن المحمدي قد تحققت بالغنى المعنوي والتعلق الروحي لوجود الإنسان الكامل عليه الصلاة والسلام ماثلا أمامها تراه في مدخله ومخرجه وحركاته وسكناته، بحيث خرجت بذلك الاقتداء من السفاهة إلى الرشد، ومن نقمة الفصل إلى نعمة الوصل، ومن الخفة إلى الثقل؛ فإن تحصيل الغنى المعنوي والتعلق الروحي يستدعي أنموذجا إنسانيا متحققا بالنموذج الإنساني الكامل، وهو سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام، بمقتضى مبدأ وكلي الوراثة المحمدية[3] لذلك لم يخل عصر من عصور الإنسانية من أمثال هذه النماذج. وأزمات الإنسانية المعاصرة مردها إلى انعدام الصلة بالأنموذج الإنساني الوارث للنبي صلى الله عليه وسلم، بل إنها تتجاوز دائرة الثمرات التي تستمدها في صلتها بالأنموذج الإنساني الحي، وتطرد الآفات وتستقبل النفحات في مجال الماديات والروحيات، بل إنها تخرج من دركات وترتقي إلى درجات. وعلى الجملة فقد تحصل مما تقدم أمور: الأولى: لقد تبين أن ضرورية وكلية المال قد دخلها خلل أتى على أرصدة وودائع مالية كبيرة شمل مختلف دول العالم التي عمتها الأزمة المالية العالمية، والتي سرت إلى مختلف القطاعات والمجالات خصوصا الاقتصادية منها وكأن خلل الأنظمة قد حل بالعالم؛ الثانية: إن الاقتصار على المقاربة المادية للأزمة المالية العالمية تبقى قاصرة وناقصة عن الإمداد بالحل الناجع والنافع، والدليل على عدم نجوعها في الاقتصار عليها هو تجدد الأزمة المالية عبر السنوات، مما يبين الافتقار إلى حل آخر يتميز بالنجوع والنفع؛ الثالثة: إن تحليل الأزمة المالية العالمية بالحديث عن نوع النظام الاقتصادي الصالح لقيادة الاقتصاد العالمي، هو اشتغال بالحل الجزئي لا الكلي، والخاص لا الشمولي، والمطلوب هو الحل الشمولي والكلي الذي يختص بالتسديد والتأييد، من جهة إنه يرتكز على استبدال القيم المثمرة للنفع والخير والسلام في مختلف المجالات والقطاعات، مكان القيم المنتجة للأزمات سواء الاقتصادية والاجتماعية والسياسية... الرابعة: تبين مما سبق أن الأزمة المالية العالمية هي في أساسها وعمقها وأصلها أزمة إنسانية يعيشها الإنسان المعاصرة من جهتين: الأولى: من جهة القيم التي يحمل في أعماقه وباطنه من مثل الاحتيال والغش والكذب والظلم وغيرها من أخلاق الهوى التي تسلسلت بها أزماته عبر التاريخ؛ الثانية: من جهة افتقاره إلى الإنسان النموذجي الذي بالتفاعل الخلقي معه يستمد الإنسان المعاصر القيم الروحية التي تدفعه إلى بث النفع والخير... في المجتمع الإنساني؛ الخامسة: لقد تبين أن الإسلام لا يقتصر في معالجته للمشاكل والأزمات الإنسانية على حل جزئي. نعم إنه اهتم بالخلل الحاصل في أي كلي من كلياته الدينية الخمسة؛ كما اهتم بالجزئيات المندرجة تحتها، فشرع مجموعة من التشريعات والأحكام التي تحفظها وتدرأ عنها الاختلال الواقع والمتوقع فيها، لكنه اهتم من جهة أخرى بالتغيير الإنساني من حيث إنه وجه في تفاصيل وجزئيات النصوص التي أفادت معنى كليا يقضي بضرورة الاهتمام بالمضغة القلبية لكل إنسان من جهة، إن تزكيتها أساس الصلاح والتخلق بل والتحقق بمضامين الدين الإسلامي؛ السادسة: إن أي تغيير إنساني لابد له من مغير، أو تقول إن عملية التغيير الإنساني تفتقر إلى مطهر ومزكي وارث لعلم التزكية النبوية قد تولى وارث محمدي آخر تزكيته وتطهيره، وهكذا في سلسلة متصلة موصولة بالمزكي الأول سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام؛ السابعة: إن الأثر الذي تخلفه الأزمات الواقعة في العالم المعاصر على الإنسانية المعاصرة من التأزم الباطني، والقلق النفسي، والانتحار الفردي، مرده إلى موت القلب، فلو كان حيا ما تأزم ولا انتحر، بل ذلك دليل على عدم صلته بالأنموذج الإنساني الحي. -------------------------- 1. ذكر رجال الاقتصاد أن النظام الاقتصادي العالمي يقوم على انتشار الفساد الأخلاقي الاقتصادي مثل الاستغلال والكذب والشائعات المغرضة والغش والتدليس والاحتكارات والمعاملات الوهمية. انظر مجلة الاقتصاد الإسلامي، العدد: 331 و332، شوال - ذو القعدة 1429ه، ص:43. 2. روى مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه وأعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظئره، فقالوا: إن محمدا قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: فكنت أرى أثر المخيط في صدره. 3. "... وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر". [رواه الترمذي وأبو داود وابن ماجة وأحمد والبيهقي].