قال الله تقدست أسماؤه: "سبحان اَلذي أسرى بعبده ليلاً من اَلمسجد اِلحرام إلى اَلمسجد اِلاَقصى الذي باركنا حوله لنريه من اياتنا إنه هو اَلسميع البصير" [سورة الاِسراء، الآية: 1]. في هذه الظروف العصيبة التي تضع أمتنا موضع مخاض عسير وابتلاء مستمر، وفي ساعة من ساعات الليل والنهار؛ تذكر هذه الأمة، في بحر آمالها وآلامها، حادثة الإسراء والمعراج التي كان من أعظم مظاهر التكريم والتبجيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وعجيب لمسلم أن يحتفل بذكرى الإسراء والمعراج ويذهل عن غاية الإسراء، ومنطلق المعراج، أو ينسى المسجد الأقصى الذي بورك من حوله، أو ينسى القِرَان القرآني الوثيق بين المسجدين العظيمين المسجد الحرام والمسجد الأقصى. لم يكن هذا الاقتران اعتباطا ألبتة، وإنما سيق لحكمة بليغة وهي تنبيه الأمة في كل زمان ومكان إلى العلاقة القدسية الأبدية الثابتة بين المسجدين، وارتباط كل منهما بالآخر، فمن فرط في المسجد الأقصى يوشك أن يفرط في المسجد الحرام. كلما أثير فينا حديث الإسراء والمعراج، لابد أن نتذكر المسجد الأقصى الذي أضحى أسيرا لدى الصهيونية منذ أكثر من نصف قرن من الزمن؛ فعلى أمة الإسلام التي تقرأ سورة الإسراء آناء الليل وأطراف النهار، وتحتفل بذكرى الإسراء والمعراج، أن تعمل جاهدة متعاونة على تحرير المسجد الأقصى، وأن تؤمن إيمانا جازما بأن قضية المسجد الأقصى هي أقدس مقدسات الإسلام. وإذا كان القوم يعتبرون إقامة إسرائيل واستمرارها قضيتهم الأولى، ويبذلون لذلك مُهَج أموالهم وأنفسهم؛ فما بالنا نحن المسلمين؟ ما الفرق بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، أليست فلسطين أرض الأنبياء والنبوات التي بارك الله فيها للعالمين، أليست القدس أولى القبلتين التي صلى إليها النبي صلى الله عليه وسلم، مذ فرضت الصلاة ، ألم يصل عليه السلام والمسلمون معه إلى بيت المقدس ثلاث سنوات قبل الهجرة، ثم صلوا إليه بعد الهجرة ستة عشر شهرا، حتى أذن الله بتحويل القبلة إلى البيت الحرام؟ ثم كان الأمر بالإسراء إلى الأرض المباركة، وانطلاق المعراج منها، وكان بالإمكان أن يتم المعراج من مكة؛ من البيت العتيق إلى السماوات العلى، ولكن الله جل وعلا أراد لعبده ونبيه أن يمر بالقدس، وأن يصلي إماما بالأنبياء، وأن تجتمع له الهجرتان؛ إيذانا بالتحول الجديد في القيادة الرسالية والروحية للعالم، وانتقالها من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل. والقدس كذلك هي أرض البركات، وبساط التجربة النبوية بمختلف مقاماتها ومراحلها وأبعادها، إذ وصف الباري جل وعلا فلسطين بذلك في سبعة مواضع من كتابه؛ منها الآية التي صدرت بها هذا الحديث. ومنها قوله عن إبراهيم: "ونجيناه ولوطا اِلى اَلاَرض اِلتي باركنا فيها للعالمين" [سورة الاَنبياء، الآية: 71]. ومنها قوله: "ولسليمان اَلريح عاصفة تجري بأمره إلَى اَلاَرض اِلتي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين" [سورة الاَنبياء، الآية: 81]. ومنها قوله: "والتين والزيتون" [سورة التين، الآية: 1]. إشارة إلى الأرض التي ظهر فيها عيسى عليه السلام، والسياق يدل عليه ويعضُده "وطور سينين" أي الأرض التي كلم الله عليها موسى عليه السلام، "وهذا البلد اِلاَمين" هي مكة التي انبثق منها النور المحمدي الخاتم. ومنها قوله تعالى: "وإذ قلنا ادخلوا هذه اِلقرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا" [سورة البقرة، جزء من الآية: 58]. ومنها قوله: "يا قوم اِدخلوا الاَرض اَلمقدسة اَلتي كتب اَلله لكم" [سورة المائدة، جزء من الآية: 21]. ومنها قوله: "واستمع يوم ينادي اِلمنادي من مكان قريب" [سورة ق، الآية: 41]. قال المفسر المغربي عبد الحق بن عطية في "المحرر الوجيز" يعني صخرة بيت المقدس، فهذه مكانة فلسطين والمسجد الأقصى في عقيدة هذه الأمة والذكر الخاتم. والقدس كذلك هي أرض الرباط والجهاد، إذ أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأرض ستتعرض للاحتلال والغزو، وأن على الأمة أن ترابط في ثغورها وأكنافها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وأن تدرأ عنها الغزاة الصائلين حتى لا يحتلوها، فإذا احتلوها خرجت عن بكرة أبيها تقاومهم بما تملك من أسباب القوة المعنوية والمادية، ففي الحديث الصحيح: "لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك، قيل يا رسول الله أين هم؟ قال: ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس". والقدس كذلك ثالث المساجد المعظمة المحرمة في الإسلام، إذ كل المساجد متساوية في الدرجة والمثوبة إلا المساجد الثلاثة التي نص على ذكرها وتعيينها الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى". حرر الله أقصانا وسائر المغصوب من بلاد المسلمين، آمين، والسلام عليكم. يتبع بحول الله تعالى.