إن الإنسان ليس هو الكون، وفي الوقت نفسه ليس عدوا له، خلافاً للوجهتين النقيضتين المادية والرهبنة، فقدر الكون أن يكون ساجداً لله بشكل دائم آخذا لموقعه منذ لحظة خلقه، بينما قدر الإنسان أن يكدح ويكابد لتبوء موقعه ويقوم بتعريف نفسه، قدره أن يعمل لتحقيق السجود ويقتحم كل العقبات المانعة له من ذلك: "وهديناه النجدين فلاَ اَقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة اَو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة ثم كان من الذين ءامنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا باياتنا هم أصحاب المشئمة عليهم نار موصدة" [سورة البلد، الآيات: من 10 إلى 20]. إن قدر الكون أن يكون ثابت الموقع في حين أن قدر الإنسان أن يحيى قَلَقَ وحَيْرةَ السعي لتعريف نفسه، ولا سبيل للفلاح في هذا إلا بالوحي، لقد جاء الوحي في المجال الإنساني متسقا مع كون الإنسان متحملا للأمانة، وكونه علم الأسماء كلها، ومع كونه قد أسجدت له الملائكة، ومع كونه قد رفع إلى أعلى مصاف الكرامة، وهذا مقتضاه تفعيل الإمكان الكامن في الإنسان، وعدم طمره أو إهماله؛ لأن في ذاك تحجيما له، فالوحي بناء على هذا تنزَّل وفق قدرات الإنسان التي زوده بها باريه، وهو أعلم به "ألاَ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" [سورة الملك، الآية: 14]. ولا يحصل الانتفاع به إلا إذا شُغِّلَت جميعُها. بتعبير آخر، لا يتحقق السجود في المجال الإنساني إلا بحشد الإنسان فردا وجماعة، لكل الطاقات المكنونة فيه، وعلى هذا يفهم قوله تعالى: "فاتقوا الله مَا اَستطعتم" [سورة التغابن، جزء من الآية: 16]. وقوله: "وأعدوا لهم ما اَستطعتم من قوة" [سورة الاَنفال، جزء من الآية: 60]. وقوله: "لاَ يكلف الله نفسا إلا مآ ءاتاها" [سورة الطلاق، جزء من الآية: 7]. وقوله: "لاَ يكلف الله نفسا اِلا وسعها" [سورة البقرة، جزء من الآية: 286]. فالوسع والإيتاء قد فُهما في فترات الجمود والقعود فَهما سالِبا، في حين أن التطلع لتحقيق السجود يقتضي لهما فَهما مُوجبا. والله الهادي إلى سواء السبيل الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء