من القيم الإسلامية التي كانت عمادا للحضارة التي سطعت على العالم، حسن إدارة الوقت وإحكام تدبيره، والذي كان الوعي بأهميته -عبر الزمن- حاضرا، والحرص على استغلاله بصالح الأعمال شديدا، علما بأن الوقت هو الحياة، هو من أنفس ما يملك الإنسان، هو الوعاء الزمني لعمل الإنسان في الحياة الدنيا، هو رأس ماله الذي لا يفنى، هو أول ما يسأل عنه ابن آدم، يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، غير أن المشكلة ليست في ضيق الوقت أو قلة بركته كما يقال، ولكن في سوء تدبيره، فتجد الكثير منا لا يملك الحد الأدنى من الإحساس بهذه القيمة، ويظهر ذلك في إهدار الوقت، وقتله بالساعات والأيام، بل العمر كله دون أن يخلد فيه الإنسان لنفسه أثرا، فيغبن نفسه، ويصدق عليه قول الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"[1] هذه هي الإشكالية المطروحة بحدة، والتحدي الأكبر أمامنا، إنها الازدواجية والثنائية بين ما يؤمن به الناس وبين ما يمارسونه على أرض الواقع، يؤمنون أن حسن إدارة الزمن، سبب في نجاح الإنسان في القيام بواجب الاستخلاف في الدنيا، وسر فوزه في الآخرة، ومع ذلك شتان بين هذا الإيمان وبين الممارسة، ولعل هذا المقال، وفي هذه العجالة، سيحاول الإسهام في ملامسة الإشكالية من بعض زواياها، ومن خلال الأسئلة التالية: ما مكانة الوقت في الإسلام إذن؟ وما حقيقته في واقع الممارسة؟ وما هي النتيجة الحضارية التي تكشفت عنها تلك الممارسة؟ وكيف السبيل إلى تجديد قيمة الوقت في الأنفس وترجمتها إلى سلوك يعيد للأمة الريادة والشهادة على غيرها من الأمم؟ إن المتتبع لنصوص القرآن والسنة، يخلص إلى نتيجة دامغة، وهي أن قيمة الوقت في الإسلام لها مكانة متميزة، تؤكده مجموعة من المؤشرات أبرزها: - أن الله تعالى أقسم بالزمن في أكثر من آية، وأكثر من سياق منها قوله تعالى: "والضحى واليل إذا سجى" [سورة الضحى، الآيتان: 1-2]، وقوله: "واليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى" [سورة الليل، الآيتان: 1-2] وغيرها من الآيات التي تؤكد على تعظيم شأن الوقت؛ - امتنان الله تعالى على عباده بالوقت، الذي هو أصل النعم في قوله: "وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم اليل والنهار وءاتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الانسان لظلوم كفار" [سورة إبراهيم، الآيتان: 33-34]؛ - أول ما يسأل عنه يوم القيامة، لمكانة الوقت في تقرير مصائر الناس، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه..."[2]؛ - التأكيد على اغتنام الوقت قبل فواته، بملئه بالنافع من الأعمال، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لرجل وهو يعظه: "اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"[3]؛ لأن من أخص خصائصه سرعة المرور، وأن ما انقضى منه لا يعود، مصداقا لقول الشاعر: وما المرء إلا راكب ظهر عمره على سفر يفنيه باليوم والشهر يبيت ويضحي كل يوم وليلة بعيدا عن الدنيا قريبا إلى القبر وهذه الحقيقة (قيمة الوقت)، وعاها أسلافنا بكل أبعادها النفسية والمادية، وترجموها بممارساتهم إلى واقع شهد حركة علمية، ومادية كانت أساسا لبناء حضارة إنسانية، وعمرانية سعدت في ظلها الإنسانية، وسجلها التاريخ بمداد من الفخر، تلك الممارسات، التي تكشف عن مدى حرصهم على تقدير قيمة الوقت، واستشعار الندم على فوات جزء، يسير منه دون كبير فائدة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: "ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه علمي". ويقول الحسن البصري: "أدركت أقواما، كانوا على أوقاتهم، أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم"، وفي هذا المعنى يقول الشاعر: إذا مر بي يوم ولم أقتبس هدى ولم أستفد علما فما ذاك من عمري وهذا هو السر في النجاح الباهر، الذي حققته الأمة الإسلامية في سالف عهدها، في شتى الميادين العلمية، والعمرانية، والحضارية، التي أشع نورها على العالم، شرقا وغربا، ثم دارت دورة الزمن، تقاعس فيها أهل حضارة عن أدوارهم، بعد أن خارت عزائمهم، ودبت الأمراض إلى نفوسهم، وأصابها الوهن، ونسوا حظا مما ذكروا به، في ظل هذه الانتكاسة استلم المشعل أناس آخرون، أخذوا بالأسباب، وإن كانت قاصرة على العنصر المادي؛ لكنهم أحسنوا تدبير الزمن، وتسلحوا بالعلم، فأحرزوا سبقا مثيرا للاستغراب والدهشة، وذلك في كل مظاهر الحياة المادية، وتلك سنة الله في عباده، يحقق على أيدي العاملين منهم نصرا وتمكينا، يتلاءم وطبيعة ما أخذوا به من الوسائل والأسباب، وليس ذلك حكرا على المسلم، ولو غض الطرف عن سنن الله في الكون. ومهما تكن أسباب التداول الحضاري بين الأمم؛ فإن التفريط في نعمة الوقت، وإساءة استخدامه، جحودا للنعمة، أو تكاسلا عن الوفاء بواجب الإحسان في تدبير الوقت؛ فإنه –لا محالة– سيأتي أوان الندم على إضاعته، حين لا ينفع الندم، وفي هذا السياق يذكرنا الله تعالى بموقفين للاعتبار هما: موقف الإنسان لحظة الاحتضار، وإقبال على الآخرة، وإدبار عن الدنيا؛ وهو يتمنى إمهاله بعض الوقت، ليتدارك من العمل ما فاته، في تصوير بديع للموقف، يقول تعالى: "وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن ياتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يوخر الله نفسا اذا جاء اجلها والله خبير بما تعملون" [سورة المنافقون، الآيتان: 10-11]. أما الموقف الثاني النادم، فهو يوم القيامة / يوم الحساب، حين تنكشف الحقيقة، ويجد كل إنسان ما عمل حاضرا أو شاهدا، فيتمنى أهل النار لو يعودوا إلى الدنيا ليصلحوا أعمالهم في قوله تعالى: "وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظلمين من نصير" [سورة فاطر، الآية: 37]. وخلاصة القول؛ إن قيمة الوقت، وإحسان إدارته، في أعلى مرقى من مراقي سلم القيم الإسلامية والإنسانية، لما لهذه القيمة، من علاقة مباشرة بالفعل الحضاري للأمم، تشهد لذلك عدة شواهد من التاريخ الإسلامي والإنساني، ومع تلك الأهمية التي لا تخفى، نجد صورتها باهتة، أمام أعين الكثير ممن أصيبوا بالعشى، بل تزداد -يوما بعد يوم- في الخفوت، ويزداد أولئك -يوما بعد يوم- في النكوص والعقوق للزمن. يتبع بحول الله تعالى ---------------------------------------------- 1. أخرجه البخاري، في صحيحه، عن ابن عباس (رضي الله عنهما)، رقم: 5933. 2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج: 20 ص: 268، رقم: 1785. 3. أخرجه الحاكم في مستدركه، ج: 18 ص: 216، رقم: 7957.