إذا كان الإنسان قد استطاع بدء فتح مغاليق الكون الخارجي، بفضل تطويعه لتقنيات استكشاف المجهول، ومجاهل أعماق المحيطات والبحار وقيعانها السحيقة؛ فإن هناك تساؤلا يطرح بحدة اليوم؛ إذ إن عالم الأطفال أقرب منالا، ولحد الآن يقف حائرا أمام مغاليق كثير من عالم الطفولة، هذا مع أن اتجاهات العلم الحديث تفترض أن مفاتيح لغز دور حياة الطفولة يكمن في الحياة نفسها، وهل هذه الأبحاث تستطيع أن تؤدي إلى فك أسرار عالم الأطفال، وتبشر بفتوحات علمية رائعة، ونحن في أواسط العام الحادي عشر من الألفية الثالثة للميلاد. وفي تصوري المتواضع أن كل هذا مكن إذا توفرت الإرادة، وبدأنا العمل حيث انتهى الآخرون، وهذا ما كنت أدعو إليه منذ استطعت حمل يراع الكتابة بين أناملي، ولما رأيت من اهتمام كتابنا وعلمائنا في العصور القديمة والحديثة، بموضوع عالم الأطفال، وهم يدرسون ذلك دراسة متأنية دقيقة وشاملة ولا مبرر للخوف في مواجهة قوة الغرب، وإنجازاته المعرفية والتقنية الهائلة، وقيمه الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، منذ بدأت الأمة فتح أبوابها لتنفذ مقالة ابن خلدون [إن التابع مولع أبدا بتقليد المتبوع] فرأيت من ضمن ما رأيت، ممن أجابوا عن ذلك جواب الآخذ أو الراد أو الحائر، فألقيت على نفسي هذا السؤال: ما المخرج إذا؟ إنه بكل تأكيد لا يمكن أن نلقي بفلذات أكبادنا في أحضان ثقافة قوة الوجود الغالبة، وإنما يجب الانفصال عنها لتميز ذاتيتنا، وذلك في عملية التأصيل والتقعيد والحداثة في الآن نفسه، بحضارة الإسلام كما فعل أسلافنا كابن رشد وابن طفيل وغيرهما كثير، لنشعر أطفالنا أنهم أمام حضارة صاعدة حية واثقة مطمئنة، يحركها الأمل والرجاء. وبالوعي الأخاذ بأن الحياة تستحق فعلا أن يعيشها أطفالنا على نحو فذ وفريد، وبجو ثري لاستدراك مقدرات حضارة راسخة الجذور، بالإرشاد والتعليم والتكوين، والتوعية على المدى البعيد لقيام نهضة تلفت الأنظار إليها، وتثير الإعجاب بعيدا عن الصخب والضجيج المزعج تبحث عن الجذور الحضارية للتاريخ الإسلامي؛ ولأنه واجب أخلاقي ومطلب إنساني؛ لأنه يخدم القضية المصيرية لأطفالنا، ولإلقاء الضوء على ما يحفل به ماضيه العريق من أشكال العلم والفن والإبداع، ضمنت لأطفال أجدادنا حياة هنيئة مريحة. وبقدر من الذكاء والصبر، فتكونت ساحة من تلاقح الأفكار، واستطاعوا قيادة سفينة الحياة تولدت خلالها قيم حقيقية أصيلة، منحت الإنسانية سلاما وراحة وطمأنينة، وبالأمل حققوا المستحيل، فجنوا وجنت معهم الإنسانية ثمرة حياة طيبة، وعندهم وجدت السعادة التي رياحها الطيبة لكل أطفال الدنيا تتلمس المثل الأعلى في أنبل الأعمال التي تستند جذورها إلى الإسلام الذي صنع لكل الدنيا حلما جديدا يهدي القلوب الحائرة. والواقع والتصور اليوم، يدعو إلى ثورة تقنية وعلمية على ظهر أرض الإسلام، وكمثال شئنا أم أبينا فإننا ملزمون بتقديم نموذج الحل، لبناء تلاحم حقيقي يحقق الهدف المنتظر، ويتماهى والانطلاقة الكبرى تمد بصر الأطفال إلى عالم المستقبل المتسارع الخطى، لاستقباله والعيش فيه بلون جديد وبما يناسب مستوياتهم ومقدراتهم وميولاتهم، ليدخلوا مصنع الحضارة من بابه الواسع، وحل مشكلات التخلف بالخبرة والعقل الإسلامي، الثري بتنوعه في لوحة هائلة منسوجة من ألف لون ولون، وما يرجوه أطفالنا أن يروا آباءهم وأمهاتهم يتجهون بإرادة موحدة، وأفكار مدروسة موحدة حتى لا نكون مع العالم المتقدم أطفاله أشبه بالحصان وراكب الحصان، ولن يستطيع المسلمون أن يقوموا بدورهم الذي يطمحون إلى تحقيقه وهم على ما هم عليه من عزلة وجمود وتواكل، واشتغال بجزئيات مقطوعة الصلة بواقع الأطفال، بعيدة عن قيم الإسلام المثلى، وجوهر رسالته إلى الناس أجمعين. والإسلام يحثنا أن ننطلق رغم كل المحاذير بلا مخاوف ولا شكوك، ولو تابعنا هذه المخاوف لن نحرك ساكنا، ولبقينا في متاهة التخلف القاتلة، تمر بنا مواكب الشعوب والأمم، تحمل ألوية الريادة والقيادة والسيادة، ونحن نصفق في بلاهة أو نجري وراء الأدخنة التي يقذف بها قطار السائرين، ويعلم الله أن الأجيال الحاضرة ضاقت صدورها بهذا الجمود والمحول والقحول، فانطلقت تحوم حول حضارة الغرب تبحث لنفسها عن مكان بين أبنائها، والسلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم رضوان الله عليهم، لم يترددوا في أن يناقشوا الأحكام بأهدافها ومبرراتها، بحرية واسعة وصلت إلى حد الاجتهاد في فهم نصوص القرآن الكريم ذاتها وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. والأمة المسلمة تحتاج إلى مراكز دراسات وأبحاث في مجالات العلوم والفنون المختلفة لاقتراح السياسات الواجب اتباعها لتكون مصدر إشعاع لأطفال المسلمين وبوسائل تكنولوجية تتلاءم مع الظروف والأوضاع الإنسانية شرقا وغربا ورحم الله العقاد يوم قال: لا تلوموا الكبير يركب هولا إنما الهول من مطايا الكبير والأطفال في واقع حياة الأمة حب وإيمان وأمل، وأرض الإسلام مليئة بماء الحياة، حيث كان وما زال في مكانه يعطي ويعطي، لم تزعزعه أعتى العواصف وأسوأها، وهو أمل لم يخب ولن يخبو أبدا نردده في صمت لأنه آية من آيات الله بل هو نور يقرأه في وجوه أطفالنا من عرف أن نور الله في وجوه الأطفال نور فياض وصدق الله العظيم إذ يقول: "الله نور السموات والاَرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دُري" [سورة النور، الآية: 35]، والأطفال مصابيح الأسر والعائلات وللمستقبل شموس مضيئة وهاجة، بل هم إن شاء الله في سماء الأمة نجوم وعلى أرضها كنوز لا تقدر بثمن. والمؤمل أن تنطلق رحلة الإيمان لتعم الكون بمن فيه وما فيه، إن كل طفل سيضيف صفحة جديدة، وكلما اكتشفنا موهبة نابغة لطفل من أطفالنا نكون قد أضفنا إلى صرح الحضارة الإنسانية كنزا يتبع صاحبه أينما ذهب، ويعلم الله أن عالم الطفولة فرض نفسه علي فرضا ذلك لأن الذهب والماس ثمن ولا ثمن للحكمة إذا فجرناها في إنجازات أطفالنا، والمسافة مهما تكن شاقة فكلما حصلنا على أطفال يدافعون عن حرمات الله صائنين لأنفسهم ودينهم مستقلين بأنفسهم عن الناس لا يذكرون أحدا إلا بخير آنئذ نقول هذه أخلاق الصالحين، التي تدفع بهم نحو العمل الكثير والصمت الطويل والفكر الصائب المنير والإنتاج يكفي ويزيد. والله سبحانه ما خلق الإنسان في الكون ليلهو ويلعب ويعبث، وإنما ليكون خليفة في الأرض يسعى في الإصلاح واتساع العمران، وإظهار أسرار خالق الكون وتدعيم أوامر الخير وإقرار السعادة والخير، وأن خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح خير من ألف خطوة في الاتجاه الخاطئ، وكما قيل [شيء خير من لا شيء] حتى تظل منارة الأطفال هي المرشد إلى الاتجاه الصحيح، علما بأن لكل شيء في هذا الكون علامة لكن أغلب الناس عن هذه العلامات غافلون؛ لأنهم لا يهتمون إلا بالظواهر أما البواطن فأغلبها محجوب، وقل يكتنفها الغموض وهي لا تكشف إلا للعلماء الذين لهم فراسة من نور يسبرون بها أغوار قلوب أطفالنا ليضعوا منهم حقيقة تنقذ الأمة من مستنقع راكد في عالم لا يدرك أسراره إلا القليل ممن ملكوا التجارب والذكاء. والأطفال طاقة جبارة يجب رعايتها والإفادة منها، ومجتمع لا يساعد الأطفال في فهم من هم، ولا تحديد دورهم في الحياة، ولا يوفر لهم فرصة تمكنهم من الإحساس بقيمتهم الاجتماعية، ولا يقدم لهم أهدافا تتبنى، إنما هو مجتمع يعطل المواهب عن القيام بدورها لتعرف معنى الحياة ويساهم في تعطيل هذه المواهب حتى لا تكون في مستوى التطور الإنساني والعالمي، وكل مجتمع فقد الإيمان بقدرة الأطفال؛ فإنه يقتل أجمل ما في الإنسانية، ويسعى للقضاء على أمانينا جميعا في فلذات أكبادنا. وليس من سبيل لعلاج هذه الحال إلا بإعداد النشء الذي يجمع بين الثقافة الإسلامية الشرعية، والثقافة الفنية المعاصرة بما يتفق وحاجات العصر المتغيرة، وبهذا نمكن للنمو والازدهار في حل مشاكل العالم وإقرار السلام، وما من عمل إلا ويحتاج إلى جهد، وقد صدق من قال: بأن طريق الألف ميل يبدأ من الخطوة الواحدة، وأعظم هبة منحها الخالق البارئ سبحانه للإنسان هي العقل وأخطر آلة تعمل أدق ما يحتاجه الإنسان اليدان المرتبطتان بكل ما يملأ رأس الإنسان من أفكار، وهما اللتان صنعتا الحياة منذ كانت هناك حياة، وكم نسر يوم نرى أيدي أطفالنا تتحرك وتبتكر وتكتب وتبدع، ولو أن أحدهم خيروه أن يفقد عينيه أو يديه لاختار الظلام؛ لأنه رأى من صور الحياة والدنيا ما يكفي، ولكنه لا يحتمل أن يرى يد أخرى تمتد لتطعمه. ومعنى ذلك أننا لو عودنا أطفالنا على عمل شيء ما؛ فإن هذا التعود سيدفعهم قدما نحو التغيير من حالة إلى حالة، والمرء إذا اعتقد بأهمية شيء في حياته وكرس نفسه للوصول إليه سيصل لا محالة وهذا ما أردت أن أنبه إليه اليوم الآباء والأمهات لاعتقادي بأن هذه الدعوة قد تكون معينة لنا ولهم على إصلاح الحال، والدفع بالأمة إلى الأمام، وغربلة ما يقدم للأطفال من جوانب العلم والدين والثقافة، والحرص التام على الجمع الواعي بين الأصالة في تراثنا والمعاصرة لواقع نعيشه، يوم ننطلق من الإسلام وتوظيف منهاجه بروح الفريق الواحد، ستكون النتيجة سارة وباهرة، ويومها نرى من أطفالنا ما تقر به أعين الأهل والأوطان والأمة والبشرية في أرض الله الواسعة؛ لأن الولاية لله وحده مرددين قول الشاعر: سبحانه رب السموات الذي بجلاله قلب الموحد ناطق الله أكبر ما استغاث موحد إلا استجاب له الكريم الرازق وهو الولي المستعان بحوله تدبيره للكون أمر خارق وله الولاية وحده متفردا والقلب منها بالضراعة خافق وإلى لقاء آخر إن شاء الله والله من وراء القصد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.