إذا كان لنا أمل في التقدم، وإرساء قواعد القيم الإيجابية التي تسهم في النهوض بأمة الإسلام؛ فإن أحد أبواب هذا الأمل هو إتاحة الفرصة للأطفال؛ لأننا عندئذ نستطيع أن نقف بثقة على الأعتاب الجادة للسداد والصواب؛ لأنهم همزة الوصل بين السلف والخلف، والنواة لطموحات جديدة نحو بعث جديد لطريق دون ضغوط من المجال العالمي المتأزم، وهذا هو التحدي الكبير للانتصار على التملق المبتذل، وبهذا وحده يتحقق الجهد الرائع الذي هو أخص ما يميز رسالتنا في الوجود ومعناها. ولكن من الإنصاف أن نقول أن قضايا الأطفال تلقي دورا أوضح على مشروع كبير، سوف ينتقل من دائرة الحلم إلى دنيا الحقيقة، ببرامج ذات قيمة تعلو على سفاسف التوافه، إلى آفاق تمكن تعميق مفاهيم تستطيع التعامل مع روح العصر بالمستوى اللائق، لتركيز الأنظار على هذه المسألة إذا أردنا لهذا المشروع أن يتواصل ويثمر، ويرتفع إلى مستوى الكمال والنضج والخلود، وتجاوبه مع فطرة الأطفال وقيامه على الشرع والعقل. وطبيعة هذا العصر الذي نحياه هو هذا الاتساع الهائل في المدارك والمعارف، وفتح الباب أمام مزيد من الداعين إلى رؤية واعية برسالة السماء، تركز على إقامة علاقة صحيحة، وحميمة بين الدين والدنيا، تنقذ الأطفال من دوامة الصراع المفتعل بين الوحي والواقع، وبين الضمير والفعل، مع الالتزام بالأصول والكليات في الرسالة الإلهية باعتبارها القاعدة الأساسية، لكل أبواب الفقه الداعية إلى مواكبة التقدم، وملاحقة ما يستجد في مسيرة الإنسانية، بما يعبر عما تعانيه أمتنا، ويترجم مشاعرها إلى واقع ملموس، ولن يتأتى لها ذلك إلا بما ينطق به عمل أطفالها من خلق وابتكار وإبداع، لنبز من سبقونا أو عاصرونا وحتى الذين يأتون من بعدنا. وهذا الزحف الهادر الذي طالما وقفنا أمامه مبهورين بأوهام وأحلام، وشكوك وصمت كصمت أصحاب القبور، إنه يدعونا أن نجند له كل الطاقات في رحلة تسابق الزمان والمكان، وبجد وحماس لردم هذه المأساة وقبرها إلى الأبد، لتتحول الحياة إلى نهر غزير المياه يدفع بهذا الضحل المتعثر بالاعتماد على الذات لتحقيق التغيير الجذري في حياة الأمة، إذ لا قيمة لتنمية اقتصادية تقوم أساسا على الغير لبناء حضارة كما قرر ذلك القرآن الكريم، ولعلنا بذلك ندرك أن الحضارة المعاصرة هي أحوج الحضارات إلى دين الله عز وجل، ومن خلال صراعها الأسود وردها إلى دين الله فطرة ومنهاجا. والإنسانية اليوم حائرة بائرة تتلمس السبيل دون جدوى، والمسلمون وحدهم قادرون بحول الله على وصفة الدواء من وحي السماء وهي مهمة جليلة، علينا أن نوظف فيها قدرة أطفالنا، ونبوغهم بمسؤولية التذكير مصداقا لقوله تعالى: "وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون" [سورة الزخرف، الآية: 44]؛ ولأن كل حضارة كان أساسها البذخ والترف، والتمرد على تعاليم السماء تجعل أصحابها يتأسون بمن أضلته قدرته على البناء وتشييد الصروح، يستعلي في الأرض بغير حق كذلك الفرعون الذي قال أنا ربكم الأعلى، حتى بلغ به الاستخفاف بنبي الله ونجيه سيدنا موسى عليه السلام أن يقول لأتباعه: "أم اَنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين" [سورة الزخرف، الآية: 52-53]. إن الواقع الذي يعيشه المسلمون، واقع رهيب على كل المستويات، وهذا يقتضي من العاملين في حقل الإسلام، إدراك هذا الواقع المرير، ويخططوا لأولادهم ويعلموهم كيف يواجهونه مع عدم الغفلة مما يفعله دعاة التغريب، فقد يقول أصحاب العزائم الخائرة، أن القوة بيننا وبينهم غير متكافئة ناسين أو متناسين قوله تعالى: "والعاقبة للمتقين" [سورة الاَعراف، جزء من الآية: 128]. وكما أن الإفساد والفساد والانحراف أشياء تبدأ صغيرة ثم تنمو وتكبر، فكذلك الهدي والصلاح والخير، يبدأ صغيرا ثم ينمو ويكبر، والله يبين لنا عاقبة الأمر بقوله تعالى: "... كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبذ فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الاَرض كذلك يضرب الله الاَمثال" [سورة الرعد، جزء من الآية: 17]، والعالم الإسلامي اليوم مدعو بالعودة إلى قيادة المجتمعات، ليبرهن عمليا أنه في مقدوره حل المعادلة الصعبة، رغم عمليات المطاردة والمحاصرة إذا سلح أطفاله بإستراتيجية صحيحة تنتقل بهم من معركة تحقيق الذات، إلى مرحلة تفتيش الذات وتقويمها، قال تعالى: "بل الاِنسان على نفسه بصيرة ولو اَلقى معاذيره" [سورة القيامة، الآية: 14-15]، لتنحصر مهمة الأمة في توضيح الحق على كيفية تصير به حقائق هذا الإسلام الذي ارتضاه الله لنا دينا كالشمس الساطعة مع إبعاد الأشواك من طريقه، في كل ما من شأنه أن يحارب العقل والقلب معا، وهكذا نصل بإيماننا إلى أسمى المراتب، كمنارة تهدي السارين في ظلمات بيداء مترامية الأطراف إبرازا لبركة الإيمان. وقد عجبت من أولئك الذين يسعون في تثبيط همم الأطفال، ويقولون للآباء والأولياء: اقطعوا أولادكم عن طريق العلم، فما في العلم من نفع ولا منه فائدة؛ ولأنهم كلما سمعوا بطفل نابغة يبذلون جهدهم الماكر بصرفه عن مبتغاه المعرفي، وكان الأجدر بهؤلاء الماكرين ألا يكسروا الهمم وألا يثبطوا العزائم، وأن يفتحوا الطريق للعبقريات والمواهب المخبوءة، حتى تظهر وتثمر ثمرها وتوتي أكلها بالتشجيع الذي هو أصل التقدم، وسبب من أسباب النجاح، فأجيال الأمة الصاعدة في حاجة إلى من يدفع فكرها للتأمل بحرص ومثابرة وإلى نصائح فالحة، تنبت نبتا جديدا صالحا على أرض جديدة بيقظة عظيمة الطموح بعيدا عن جروح التثبيط وقروحه. والأطفال الموهوبون كالماس بين الأحجار، وكما قيل: الناس معادن كالذهب والفضة أو أقل من ذلك، أي مثل الحديد والرصاص والفحم، والأطفال درجات، وطبيعي أن تقييم كل منا لهذه الدرجات يختلف باختلاف البيئة والثقافة، وكل تقييم إما بنظرة سطحية أو عميقة تسبر الغور وتصل إلى كنه الحقيقة ومن البشر من يراها في الجاه والمال والسلطة والنفوذ، ومنهم من يراها كما يراها القرآن الكريم: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" [سورة الزمر، جزء من الآية: 9]، أو كما يضعها لنا الحديث الشريف الذي رواه أصحاب السنن [العلماء ورثة الأنبياء]، والناس صنفان: موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء، ولمزيد من التوضيح فالأطفال العباقرة بين غيرهم من الأطفال كمنزلة الماس من الفحم. ومع ذلك فلكل ما سعى، حجرا كان ذلك أو جاها أو مالا، وكل يزول إلا الحكمة، إلا الفكرة، إلا المعرفة؛ لأنها جميعا بمثابة الحجر الكريم المتلألئ على جبين الإنسانية، وفي ذلك كفاية لقوم يعقلون. والتثبيط لا يأتي إلا من جراءة الأشرار وسلبية الأخيار، وصدق الفاروق سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال: [اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر وعجز الثقة]؛ لأن إصلاح المجتمعات لا يأتي عن طريق المتخاذلين والضعفاء وإن ادعوا أنهم صلحاء، والإسلام قرآن وسنة علمنا أن الدين والخير والضمائر الحية هي الإقدام والجرأة في السيطرة على نواص الأمور، لقيادة الناس إلى طريق الخير والدين، ونشر العدالة والمساواة لتنعم البشرية بالهدوء والاستقرار مطمئنة على أرواحها وأعراضها وعقائدها وممتلكاتها. ولقد استغل أعداء الأمة الضحالة والضعف الخلقي في أطفالنا فجذبوهم بشعارات زائفة براقة، وادخلوهم في إطار أفكار هدامة وظنوا أنهم يسلكون سبيل التقدم والرقي وفي الواقع ينحدرون إلى الهاوية، وهم يعلمون، ولكنهم يتجاهلون أن ثقافة الأمة وتراثها هو ما ضمته خزائن الكتب التي أهيل عليها التراب في عصور الجمود والانحطاط ولذلك عمروا حياتها باللهو واللعب، وسموا الأشياء بغير أسمائها، بل بضد أسمائها فقالوا عن هز البطون وتحريك الأعجاز، ومظاهر الهزل والتخلف ثقافة وفنون، وما العاصم من هذه التفاهات والترهات، إلا الإيمان بالله لأنه خير عاصم، به يتقبل الناس ظروف عملهم بنفوس راضية، ويتسم سلوكهم بالقناعة والرضا عملا بقوله تعالى: "الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب" [سورة الرعد، الآية: 28]. إنه ينبغي أن تكون لأطفال المسلمين شخصيتهم الواضحة وذاتيتهم الواضحة، وهويتهم المستعلية بمنهج الله، وعلينا أن نفتح نوافذ قلوبهم ومشاعرهم لكل ما أبدعته البشرية لكي يزدادوا قوة في إيمانهم، وتفردا في شخصيتهم، ولنتذكر دوما أن الأشبال يتغذون على الغزلان لا ليصيروا غزلانا، ولكن لتقوى فيهم جسارة الأسود وهمتهم. وختاما أرجو أن تكون قضية تعليم أطفال المسلمين هو الشغل الشاغل، والهم الأول لكل أسرة مسلمة حماية لهم من الذوبان في خضم أتون، إذ لابد من حركة علمية وتكنولوجية جبارة، نابعة من ذات الأمة تنتظم كل مجالات الحياة، حتى نتمكن من النهوض على ما تنهض به سائر الأمم والشعوب، والله أسأل التوفيق لجميع العاملين لخدمة أطفال المسلمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.