التسامح من شيم الكرام، ومن صفات أهل النفوس الكبيرة والهمم العالية، والسجايا الندية الكريمة، إذ من شأنهم أن يسعوا الناس بأخلاقهم، ويتغاضوا عن هفواتهم، ويقيلوا عثراتهم، ويترفعوا عن إساءاتهم، ولا يتتبعوا أخطاءهم وعيوبهم، يقول الحسن البصري: "ما استقصى كريم قط"، ويقول سفيان: "ما زال التغافل من شيم الكرام"[1] ويقول الشاعر الحكيم في نفس المعنى: اقبل معاذير من يأتيك معتذرا إن بر عندك فيما قال أو فجرا ويقول آخر: وإذا بليت بشخص لا خلاق له فكن كأنك لم تسمع ولم يقل هذه صورة في غاية الجمال، وفي أعلى درجات الكمال البشري، مسيء لا يكف عنك إساءته، وأنت تدفع تلك الإساءة بالحسنى، وتحبس أنفاسك حتى عن الرد بالمثل، وتكظم الغيض وتعفو، إنه منتهى الإحسان الذي يستوجب محبة الله تعالى ورحمته وجنته، كما وعد بذلك في الثناء على العافين في قوله عز من قائل: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" [سورة اَل عمران، الآية: 134]، لكن التسامح لا يتحقق مدلوله إلا إذا كان من موقع القوة والعزة، لا من موقع الضعف والذلة، وعلى حساب الحقوق الشخصية والعرض والمال، وحتى يعلم القارئ أن القيم الإسلامية بمجموعها ليست مبادئ نظرية مثالية بالمفهوم الفلسفي لا تقبل التطبيق، بل هي قيم واقعية، حظيت بالتطبيق في واقع الناس على مر العصور ولا تزال؛ لأنها جزء من الدين، تتصف بالثبات، ولا تتغير بتغير الزمان أو المكان؛ ولأنها تمثل منظومة متكاملة مهمتها تنظيم العلاقات بين الناس، وتوجيه سلوكهم نحو التعامل الحضاري الأمثل، والتاريخ الإنساني عامة والإسلامي خاصة غني بنماذج وأمثلة تطبيقية للتسامح -عبر العصور- تفوق الحصر، كما دون القرآن الكريم نماذج خالدة ارتفعت على حب الذات والثأر للنفس نذكر بعضها على سبيل المثال: • قصة ابني آدم وتسامح هابيل مع أخيه قابيل حين رد على تعسف أخيه وتجاوزه للمعقول بقلب ثابت قائلا: "لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك" [سورة المائدة، جزء من الآية: 30] ترفعا عن حظ النفس ومقابلة الإساءة بمثلها؛ • قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه آزر بعد أن أمعن في نصحه، وبعد أن هدده أبوه بالرجم والطرد قائلا: "يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا" [سورة مريم، الآية: 46]، رد عليه ابنه متساميا على مجافاة أبيه له ومتسامحا، فقال: "سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا" [سورة مريم، الآية: 47]؛ • تسامح يعقوب عليه السلام مع أبنائه الذين جاءوا أباهم معتذرين عن خطيئتهم الشنيعة قائلين: "يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين" [سورة يوسف، الآية: 97]، وقبل اِعتذارهم قائلا: "سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم" [سورة يوسف، الآية: 98]؛ • تسامح يوسف عليه السلام مع إخوته الذين اعترفوا بين يديه بخطئهم حيث قال: "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" [سورة يوسف، الآية: 92]؛ • أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم -الرحمة المهداة للعالمين- فمواقفه كلها تسامح وعفو بحيث لا يحصيها عد، ولا يستوعبها حصر، نذكر منها بعض النماذج كالآتي: 1. صحيفة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم عقب الهجرة، وضمنها الحقوق الدينية والمدنية والسياسية لساكنة يثرب على اختلاف دياناتها، وتعتبر الصحيفة –بحق- الدستورالذي حقق التوازن بين جميع فئات المجتمع المدني انطلاقا من مبدأ الاحترام الكامل للإنسان من حيث كونه إنسانا استحق تكريم الله له بقوله: "ولقد كرمنا بني ءادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" [سورة الاِسراء، الآية: 70]. 2. موقفه صلى الله عليه وسلم من بنود صلح الحديبية القاسية التي منها: قبوله صلى الله عليه وسلم بمحو اسم "الرحمن" واسم "رسول الله" من كتاب الصلح، تسامحا منه صلى الله عليه وسلم لسهيل بن عمرو على تعنته، وقبول شرط آخر لا يقل إيلاما، خاصة على نفوس صحابته الكرام، ألا وهو، ألا يأتي إليهم رجل من مكة -ولو كان مسلما- إلا ردوه إلى مكة، كل هذا التعسف في الاشتراط كان قاسيا تحمله الرسول الكريم وصحبه معه بسعة الصدر والحلم والتحلم؛ 3. صحيفة نجران التي وضع بنودها الرسول صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران الواقعة جنوب الجزيرة العربية، والتي نصت على حماية حقوقهم الدينية والمدنية كما ذكرها أبو زهرة في كتابه[2]، ويكفي دليلا على تسامح الإسلام ما قام به صلى الله عليه وسلم من استقبال لوفد نجران في مسجده والسماح لهم بأداء الصلاة فيه؛ 4. هذا مطعم بن عدي المشرك، قدم مساعدة للنبي صلى الله عليه وسلم يوم عودته من الطائف، وحين مات على الكفر رثاه شاعر الإسلام: حسان بن ثابت بحضرة النبي الأمين فقال: فلو أن دهرا أخلد مجده اليوم أحدا لأخلد الدهر مجده اليوم مطعما وهذا غيض من فيض من تطبيقات نبي الرحمة والرسول القدوة صلى الله عليه وسلم، لقيمة التسامح حتى مع غير المسلمين ليعلم الأمة التي أمرها تعالى أن تتأسى به في أخلاقه التي مدحه الله بها بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم" [سورة القلم، الآية: 4]، ففي الاقتداء بالأسوة الحسنة خروج من الحيرة، وسبيل للنجاة وتحقق للرجاء الوارد في قوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجواْ الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا" [سورة الاَحزاب، الآية: 21]. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل. ------------------------ 1. تفسير روح المعاني، ج، 28، ص: 150. 2. الشيخ أبو زهرة، خاتم النبيئين، ص: 1368–1369.