إن استقرار أي مجتمع رهين بانسجام أفكار ومعتقدات أفراده ولو في حدودها الدنيا، وذلك على الصعيد الفردي والجماعي، مما يخلق فيه بينهم دوائر للتفاهم، ومن ثم إمكانيات للتعايش. ومن أهم هذه الأفكار والمعتقدات النظرة إلى الكون والحياة، والعلاقات الموجودة بين الإنسان ومحيطه البيئي بمختلف مستوياته، وكلما بعدت الهوة بين الفهوم في هذه الميادين، خلقت تنافرا وتدابرا وصراعا مريرا، إذ كل يدعي فيه امتلاك الحقيقة المطلقة، مما يضرب في الصميم قيم الاستقرار والتقارب والتفاهم. أ- أثر العقيدة الإسلامية في تقريب الأفهام بين مكونات المجتمع: تستطيع العقيدة الإسلامية بما تتميز به من الخصائص المرتكزة في عمومها على خاصية الربانية أن تقرب بين أفهام أفراد المجتمع الواحد، وإن اختلفت دياناتهم أحيانا، وذلك لارتكازها في مخاطبتهم جميعا على استثارة مكامن الفطرة في دواخلهم وذلك عبر مدخلات متعددة نذكر منها على الخصوص: 1. تأكيد اجتماعية الإنسان، وحاجة بعضه إلى البعض الآخر ولو اختلفت ديانة أفراده، وذلك عبر تذكيره بأصله الواحد وبوظيفة سنة الاختلاف المجعولة بين أفراده بمخاطبته بقوله عز وجل: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" [سورة الحجرات، الآية:13]. 2. استثارة عقيدة التعاون التي لا يمكن أن تتم إلا في جو التعايش والتفاهم، وحصرها بضابط المصلحة التي يعبر اللفظ القرآني عنها بقوله سبحانه: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" [سورة المائدة، الآية:3]. 3. بيان أن الإنسان والطبيعة هما في علاقة تكاملية لا علاقة تصادمية مع التأكيد على سنة تسخير الله الكون لخدمة الإنسان، والطابع الاستخلافي له داخله، فهو ليس سيدا له يتصرف فيه وفق إرادته وحريته المطلقتين. وقد أشار سبحانه إلى العلاقة التكاملية بينهما بقوله: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الاَرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب" [سورة الحج، الآية:18]. ومتى ما دخل الإنسان في صراع مع الطبيعة باعتبارها عدوة له، كان هو الخاسر الأول والأخير، وما تطلعنا عليه قصاصات الأخبار العلمية الطبيعية الفلكية اليوم عن التغيرات المناخية لدليل قاطع على اختلال العلاقة بين الإنسان وبيئته الطبيعية. 4. تحفيز الفرد على إشباع رغباته النفسية والغريزية والاجتماعية وفق ما ينسجم ومصلحة المجتمع بدءا من أفراد الأسرة، فقضية المشروع والممنوع في الإسلام من أهدافها تحقيق هذا التوازن. وتشهد لذلك قصة الشاب الذي جاء يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الزنى...[1]. وتتجلى أهمية هذا الاعتقاد وهذه القناعة الدينية في دفع الفرد إلى التخلي عن بعض شهواته أولا لحفظ مصلحة الجماعة، وبالتالي حفظ مصلحته هو أيضا في دنياه وأخراه، وكلنا يستحضر روح قوله عز وجل: "ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" [سورة الحشر، الآية:9]. فقيم الإسلام السمحة النابعة من عقيدته الصافية تنمي في الفرد المسلم مشاعره الإنسانية تجاه محيطه مما ينتج عنه المساهمة الفعالة في استقرار مجتمعه والاندماج فيه بيسر وسهولة. 5- تحقيق التوازن لدى الفرد المسلم في علاقته بربه، بإخوته في العقيدة، وببني جنسه عموما مما يجعله أكثر تقبلا وقابلية للمساهمة في استقرار مجتمعه، فالواجبات الموزعة بالعدل والقسط عند المسلم من طرف الشرع الحكيم، تخلق فيه من الفعالية - إن هو وعاها وتمثلها - ما يجعله كذلك. ب- العقيدة الإسلامية ومنظومة السلوك: لقيم هذه العقيدة آثار إيجابية في تغذية منظومة السلوك الإنساني بضوابط وتوجيهات ربانية إنسانية مثل الصدق والأمانة والإخلاص والعدل... - بعد أن يكون المؤمن قد أيقن بأهميتها العقدية والسلوكية –فهي تؤدي دور التدريب على التفاؤل ورفع سقف الكفاءة نحو الرقي بالنفس إلى كمالاتها الفردية والاجتماعية، حيث إن معظم القيم الإسلامية ذات حمولة اجتماعية وتأخذ قيمتها الكبرى وأهميتها القصوى عندما تخضع لمحك المعاملة، علاوة على ذلك فالقيم الإسلامية تشكل نوعا من الترشيد لسلوك الفرد في تعامله مع محيطه، وإسلاميتها تكسبها كل خصائص الإسلام من ربانية وإيجابية وشمولية وثبات وغيرها، بل وتكسبها قيمتها في خلق الانسجام والتناغم بين فسيفساء المجتمع ومختلف أطيافه، فهي الحضن الدافئ لسلوكاته المؤدية إلى استقراره. فإذا ما ضمنا داخل المجتمع الاتصاف بالحد الأدنى من القيم الإسلامية الإنسانية، ضمنا بها الحدود الدنيا من التوافق والانسجام والتعاون على الخير والتنافس في تحقيقه، أما إذا تعددت المرجعيات حتى بلغت حد التناقض، فعلى المجتمع السلام وسيصير زرع ألفته إلى حطام. والقيم الإسلامية تمثل قواعد للسلوك في مختلف مجالات الحياة الإنسانية، لذلك فإن دعوة الإسلام الناس عموما والمسلمين خصوصا إلى التشبث والتشبع بها لدليل حرصه على سلامة المجتمع الإنساني واستقراره في مختلف مجالاته المادية والمعنوية والجسمية والعقلية والنفسية. -------------------------------- 1. الحديث رواه الإمام الذهبي في المهذب 3711/7.