دين الله تعالى في كل الأمم واحد لا تختلف أصوله باختلاف الأمم وأحوالها وأزمانها وأمكنتها وإنما الذي يختلف باختلاف ذلك هو الأحكام الفرعية. يشير إلى ذلك قوله تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله" [ سورة اَل عمران، الآية: 64]، وقوله تعالى: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده" [سورة النساء، الآية:163]، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد بشرت به الأنبياء قبله، وأتباع الأنبياء يعلمون ذلك، ولكن أكثرهم يكتمون ذلك ويخفونه، قال تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" [سورة الاَعراف، الآية:157]، "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والاَرض لا إله إلا هو يحيى ويميت فأمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون" [سورة الاَعراف، الآية: 158]، وقال تعالى: والذين ءاتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق" [سورة الاَنعام، الآية:114]. وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ولا يؤمن بي إلا دخل النار"، لقد جاء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لتقرير الحق والاعتراف به وينصح الناس أن يتمسكوا به وحينما بعثه الله تعالى كان العرب قد بلغوا من الفصاحة والبيان مبلغا لم يعرف في تاريخهم من قبل استجابة لسنة التطور في الحياة فجاء عليه السلام مؤذنا فينا بأنه قد آمن بما أنزل الله من كتاب وأنه آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله غير مفرق بين أحد من رسله، كما أخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن الله تعالى أوحى إليه أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا، وأن من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا، لم يأت النبي صلى الله عليه وسلم ببدع من الشرائع، ولكن بما قرره . الله سبحانه من الحق، وأوحي به إلى أنبيائه من قبل كما قال عز من قائل: "وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه" [سورة المائدة، الآية:48]، على أننا نعلم ما تقرر في الإسلام من أن شرع من قبلنا شرع لنا ما يرد لم ناسخ، فترى من جميع ما تقدم أن الإسلام لم يخالف مقتضى الفطرة السليمة في اعتبار ما سبق من الشرائع والأخذ بما تقرر من النواميس العادلة، سواء ورد بها دين إبراهيم، أو دين عيسى ابن مريم أو غيره. نعم إن الإسلام نسخ بعض ما فرض الله على الماضين من الكلف الشاقة التي جلب عليهم عنادهم وظلمهم كما قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل" [سورة النساء، الآية:4] ، فإنهم لم يزالوا كذلك حتى جاء المصطفى عليه الصلاة والسلام حريصا على المؤمنين رؤوفا بهم رحيما لهم، فأباح الطيبات من الرزق، ولم يكلف نفسا إلا وسعها، فكان دينه بذلك أكثر الأديان ملائمة للطباع والعادات، والقوى البشرية على اختلافها، ولذا كان عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين. إن البشارات به صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب الموروثة عن الأنبياء قبله حتى تناهت النبوة إلى آخر أنبياء بني إسرائيل وهو عيسى بن مريم، وقد قام بهذه البشارة في بني إسرائيل وقص الله خبره في ذلك فقال: "وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فأخبار محمد صلوات الله وسلامه عليه بأن ذكره موجود في الكتب المقدمة فيما ورد عنه من الأحاديث الصحيحة كما تقدم، وهو مع ذلك من أعقل الخلق باتفاق المواقف، والمفارق، يدل على صدقه في ذلك قطعا أنه قد انتشرت دعوته في المشارق والمغارب، وعمت دولة أمته أقطار الآفاق عموما لم يحصل لأمة من الأمم قبلها، لقد شاءت إرادة الله أن تكون معجزة كل رسول ملائمة لقومه ومن جنس ما برعوا فيه وتفوقوا وحينما بعث الله سبحانه محمدا عليه السلام كان العرب قد بلغوا من الفصاحة والبيان شأوا بعيدا، فكان من تدبير الله تعالى أن يجعل القرآن الكريم معجزة النبي الكبرى الخالدة على الزمن تتحدى أبلغ البلغاء ومن يرون أنهم ملكوا ناصية الفصاحة وفنون المقال. وحينما قال المشركون: إن القرآن من كلام الرسول تحداهم الله أن يأتوا بمثله، "أم يقولون تقوّله بل لا يومنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين" [سورة الطور، الآية:34-33]، ثم نزل وطالبهم بأن يأتوا بسورة واحدة، فلم يقدروا ولم يحاولوا. "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين" [سورة البقرة، الآية:23]، وكيف يستطيعون شيئا من ذلك، "قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا" [سورة الاِسراء، الآية:88]، والقرآن فوق طاقة البشر وكان أبلغ ما قالوه لو نشاء لقلنا مثل هذا، ولكنهم كفوا ألسنتهم فلم يقولوا شيئا فقد كانوا عبدة البيان قبل أن عبدة الأوثان، وقد سمعنا بمن استخف منهم بأوثانهم، ولم نسمع قط بأحد منهم استحق ببيانهم وقصة سفانة بنت حاتم الطائي عندما أسرتها خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتوه بها فقالت: "هلك الوالد وغاب الرافد، فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي كان سيد قومه، يفك العاني ويقتل الجاني، ويحفظ الجار ويحمي الدمار ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام ويحمل الكل ويعين على نوائب الدهر وما أتاه أحد في حاجة فرده خائبا أنا بنت حاتم الطائي" فقال لها صلى الله عليه وسلم: "يا جارية هذه صفات المؤمنين حقا خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق ثم أسلمت هي وأخوها عدي بن حاتم رضي الله عنهما ودخل الناس في دين الله أفوجا وعم الإسلام أقطار الدنيا.