سنحاول بيان أهم خصائص الحوار في القرآن من خلال نماذج محددة من الحوارات التي استعمل فيها الأسلوب المباشر بواسطة فعل القول:( قال، قالوا، قال له، قال لهم، سيقول، قل، فقل...) الذي يرد في القرآن بكثرة حيث يفوق الألف والسبعمائة مرة. الخصيصة الأولى: حوار مؤسِّس، وله في القرآن الكريم نماذج، من ذلك: • الحوار مع آدم وزوجه وهو الحوار الذي سيتأسس عليه الوجود الإنساني في الأرض وستنبني عليه قصة الاستخلاف، وطبيعة العلاقة بين الإنسان والشيطان، ولنتأمل هذا الحوار في سورة الأعراف: "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا، وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ، فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ، قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ، قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ". • ومن الحوارات المؤسسة لأركان الدين الحوار بين الله عز وجل وإبراهيم عليه السلام في سورة البقرة: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ...". • ومن الحوارات المؤسسة لتصور سليم لمفهوم الألوهية حوار الله مع نبيه عيسى عليه السلام الذي يؤسس تصورا صحيحا لعلاقة الله عز وجل بأنبيائه، وذلك قوله تعالى في سورة المائدة: "وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّه،ِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ...". الخصيصة الثانية: حوار غير محدود من المثير في حوارات القرآن الكريم أنها حوارات طرقت كل الموضوعات، وجمعت بين أطراف مختلفة إلى حد التناقض، ومن ذلك الحوار الدائر بين نوح وابنه، حيث وقفا على طرفي نقيض حسيا ومعنويا: "وهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ"[سورة هود، الآية: 42- 43]. وأيضا حوار الله عز وجل مع إبليس، حيث ترك لهذا المخلوق فرصة عرض رأيه والاحتجاج لموقفه، وقد تكرر هذا الحوار بأساليب مختلفة في مواضع عديدة في القرآن الكريم. وفي مستوى آخر، نجد الحوار في القرآن يقرع أكثر الأبواب استعصاء على العقل، حين يتخذ من قوانين الخلق والبعث موضوعا له، وهي من الأمر الإلهي الخاص، كما في حوار إبراهيم مع ربه: "وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" [سورة البقرة، الآية: 260]. وفي سياق آخر يعرض القرآن حوار الله عز وجل مع الملائكة، في موضوع خلق الإنسان واستخلافه في الأرض، وهم يعلمون أكثر من غيرهم أن لا دخل لهم في هذا الأمر الإلهي الجلل، ومع ذلك يستمر الحوار إلى أن يستبينوا الحقيقة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الاَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِين،َ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالاَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) [سورة البقرة، الآية: 30-33]. نخلص من هذا أن انحسار لفظ الحوار في القرآن الكريم وقلة موارده، يقابله اتساع في مساحة المفهوم، فالحوار باعتباره فعلا ممارسا وارد فيه بقوة، وهو ما جعله يرقى إلى مستوى المفاهيم المؤسسة للعديد من الحقائق والتصورات العقدية التي تشكل موضوعا مركزيا في القرآن الكريم، بل يمكن أكثر من ذلك الزعم بأن القرآن الكريم نفسه يعتبر مجالا للحوار بين الله والإنسان، باعتباره رسالة موجهة للعالمين... والله سبحانه وتعالى أعلم. (يتبع)..