كان هذا الشيخ المقرئ أحمد بن إبراهيم بن سعيد البوجرفاوي السوسي الملقب بلقب "أَنجَّار" آية من آيات الله في علو الهمة وقوة اليقين، وكان قد ولد بقرية "أكرار" من قبيلة "آيت نِصْف" من قبائل "آيت باعمران" السوسية أواخر القرن الهجري الثاني عشر. أخذ القرآن أولاً على الأستاذ محمد بن إبراهيم بمسجد "أم الدفلى"، ثم انتقل إلى مدرسة "بونعمان"، فلبث فيها زمانا حتى استكمل قراءة نافع، فطمحت به نفسه إلى طلب القراءات أولاً بالمدرسة المذكورة، وبها حصّل الروايات الأولى منها. أما قصته في علو الهمة وقوة اليقين فتبتدئ - كما حكى ذلك حفيده الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد أنجار في تقييد له بقلمه - هكذا: لما استفتح الشيخ أحمد أنجار القراءة بالروايات، بدأ برواية قالون عن نافع كما جرت العادة بذلك، ثم أردفها بقراءة ابن كثير المكي، ثم جاء إلى قريته لزيارة والديه بالقرية المذكورة، فعرّج على مسجد "أم الدفلى" المذكور لزيارة شيخه محمد بن إبراهيم، فلما دخل للسلام عليه وجده عاكفا على تصحيح ألواح طلبته كعادته، فقدم الشيخ إليه لوحا من الألواح ليصححه على رواية ورش، فأخذه وأخذ القلم والدواة وشرع في التصحيح، فأمهله الشيخ قليلا ثم سأله: أين بلغت من التصحيح؟ فقال: بلغت قوله تعالى: "ومن لستم له برازقين" [سورة الحجر، الآية:21] فقال له الشيخ مداعبا: "وكيف تقرأ {برازقين} بتفخيم الراء أم بترقيقها؟ فلم يستحضر الجواب وتحير في ذلك؛ لأنه لا عهد له بالخوض في هذه المباحث من علم التجويد، وإن كانت وثيقة الصلة بعلم الروايات. قال: "فوضع اللوح من يده، وخرج دون وداع أهله، وحلف يمينا أن لا يعود من رحلته حتى يتقن السبع والعشر قبل أن يرجع إلى قريته. فذهب قاصدا إلى جهة الشمال المغربي، إلى أن انتهت به قدماه إلى نواحي تطوان، حيث تردد على مشيخة القراءات في بلاد جبالة والشمال كله حتى نبغ في القراءات وعلومها، وقضى وطره من التحقق من علم التجويد. وكان الشيخ أنجار قد ابتدأ الرواية في مدرسة "بونعمان" سنة 1210 ه، وفيها أتقن حرف المكي بالجمع والإرداف على شيخه الأستاذ المقرئ سيدي محمد بن حسين التمكدشتي، وكان هذا الأستاذ قد أخذ القراءات السبع بمدرسة "سيدي وكاك" بأكلو المشهورة بناحية تيزنيت إلى جهة الساحل منها، ومنها خرج أيضا إلى قبائل جبالة بالشمال، فقرأ فيها القراءات السبع بمصطلح وعدد جبالة في القراءات، وهو مصطلح لا عهد لأهل سوس به، إلا من كان منهم قد شد الرحال إلى هذه الجهات، كما فعل الشيخ أنجار وشيخه سيدي حسين رحمه الله. وذكر حفيد أنجار المذكور في سياق أخبار هذه الرحلة النجارية من سوس إلى الشمال على الأقدام: أن الطالبأحمد أنجار لما كان سائرا في بعض جبال الأطلس الكبير، وجد الناس متجمهرين في طريق ضيق على مشارف بعض القرى ، فلما وصل إليهم سلم وسأل عن سبب التجمع، فقالوا له: إن على الطريق ثعبانا أو أفعوانا هائجا قد قطع على المارة طريقهم ، فهم يهابون المرور إلى القرية خوفا من الثعبان، فطلب أن يشيروا إلى موضعه، وأن يتركوا له هذه المهمة، فحذروه وأشفقوا عليه من الثعبان، ولكنه أصر على التصدي له بمفرده ومهاجمته بعد أن برز إليه، فتقدم نحوه بعصاه ، وسرعان ما وجه إليه ضربة قاضية أطاحت برأسه، وقال: "اغرب من وجهي أيها الثعبان النكِد، فإن سُمَّ {برازقين} أشد وأصعب علي من سمك"، يعني بذلك الكلمة القرآنية التي كانت السبب في غربته وارتحاله من بلده والرمي به في هذه الجبال. وقد ذكر العلامة محمد المختار السوسي في الجزء 18 /123 124 من كتاب المعسول: أن الشيخ أنجار -رحمه الله- لازم شيخه ابن حسين ثمان سنين قبل رحلته، ولما عاد من الرحلة شارط بمسجد "النواصر" بشيشاوة، وبقي هناك إلى أن مات شيخه المذكور، وكان قد شارط في مدرسة "سيدي وكاك" بأكلو، فأرسل أهلها بعد موت سيدي حسين يعرضون على الشيخ أنجار أن يشارط في المدرسة، فالتحق بها، وبقي بها سنين كثيرة حتى وافته المنية بها سنة 1286ه عن سن عالية، ودفن بها إلى جانب شيخه سيدي حسين على يسار باب القبة التي دفن فيها سيدي وكاك بن زلو اللمطي تلميذ أبي عمران الفاسي، وصاحب المدرسة التاريخية الشهيرة بوادي نفيس بأحواز مراكش التي كان منها انطلاق دولة المرابطين في الثلث الأول من القرن الخامس الهجري، هذه الدولة التي بنت مدينة مراكش، ووحدت ما بين المغرب والأندلس. وما يزال آل الشيخ أنجار يتوارثون المشيخة خلفا عن سلف إلى يومنا هذا، وما تزال مدرستهم قائمة بهذه المهمة، وعلى رأسها حاليا من أحفاد الشيخ النجاري: العلامة محمد بن المكي النجاري، وقد نظمت في آخر الشهر الماضي ندوة علمية لإحياء الذكرى الألفية لرباط ومدرسة الشيخ وكاك بأكلو أيام 28 - 29 - 30 ماي 2010 م، والله المستعان.