«وعن الثاني: إنا لا نسلّم ذلك على الإطلاق؛ وإنما فرض الكفاية رد كل فاسد وإبطاله، عُلم ذلك الفاسد أو جُهل؛ إلا أنه لا بد من علم أنه فاسد، والشرع متكفل بذلك. والبرهان على ذلك أن موسى - عليه السلام - لم يعلم علم السحر الذي جاء به السحرة مع أنه أُبطل على يديه بأمر هو أقوى من السحر؛ وهو المعجزة. ولذلك لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم خاف موسى من ذلك؛ ولو كان عالما به لم يخف كما لم يخف العالمون به - وهم السحرة -؛ فقال الله له "قلنا لا تخف إنك أنت الاَعلى" [سورة طه، الآية:67]، ثم قال : "إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى"[سورة طه، الآية: 68]. وهذا تعريف بعد التنكير؛ ولو كان عالما به لم يعرَّف به. والذي كان يعرف من ذلك أنهم مبطلون في دعواهم على الجملة. وهذا الحكم في كل مسألة من هذا الباب؛ فإذا حصل الإبطال والرد بأي وجه حصل؛ ولو بخارقة على يد ولي الله أو بأمر خارجي عن ذلك العلم ناشئ عن فرقان التقوى؛ فهو المراد؛ فلم يتعين إذن طلب معرفة تلك العلوم من الشرع. وعن الثالث: إن علم التفسير مطلوب فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب؛ فإذا كان المراد معلوما فالزيادة على ذلك تكلف. ويتبين ذلك من مسألة عمر – رضي الله عنه – وذلك أنه لما قرأ "وفاكهة وأبا" [سورة عبس، الآية:31] توقف في معنى الأبّ؛ وهو معنى إفرادي لا يقدح عدم العلم به في المعنى التركيبي في الآية؛ إذ هو مفهوم من حيث أخبر الله تعالى في شأن طعام الإنسان أنه نزل من السماء فأخرج به أصنافا كثيرة مما هو طعام الإنسان مباشرة؛ كالحَب والعنب والزيتون والنخل؛ ومما هو من طعامه بواسطة مما هو مرعى للأنعام على الجملة؛ فبقي التفصيل في كل فرد من تلك الأفراد فضلا؛ فلا على الإنسان ألا يعرفه. فمن هذا الوجه –والله أعلم– عُد البحث عن معنى الأبّ من التكلف؛ وإلا فلو توقف عليه فهم المعنى التركيبي من جهته لما كان من التكلف؛ بل من المطلوب علمه لقوله (ليدبروا ءاياته – ص: 28). ولذلك سألَ [أي عمر بن الخطاب] الناس على المنبر عن معنى التخوف في قوله تعالى: "أو ياخذهم على تخوف" [سورة النحل، الآية: 47]؛ فأجابه الرجل الهذلي بأن التخوف في لغتهم التنقُّص، وأنشده شاهدا عليه [ من شعر العرب ]؛ فقال عمر: "ياأيها الناس؛ تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم؛ فإن فيه تفسير كتابكم". ولما كان السؤال في محافل الناس عن معنى "والمرسلات عرفا" [سورة المرسلات، الاية: 1] "والسابحات سبحا"[سورة النازعات، الآية: 3] مما يشوش على العامة من غير بناء عمل عليه أدّب عمرُ "صبيغا" بما هو مشهور. فإذن تفسير قوله: "أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها..."[سورة ق، الآية: 6] بعلم الهيئة الذي ليس تحته عمل غير سائغ، ولأن ذلك من قبيل ما لا تعرفه العرب[1] ، والقرآن نزل بلسانها وعلى معهودها... وكذلك القول في كل علم يعزى إلى الشريعة لا يؤدي فائدة عمل ولا هو مما تعرفه العرب؛ فقد تكلف أهل العلوم الطبيعية وغيرها الاحتجاج على صحة الأخذ في علومهم بآيات من القرآن وأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما استدل أهل العدد بقوله تعالى: "فاسأل العادّين" [سورة المومنون، الآية: 114]، وأهل [النسب العددية أو الهندسية] بقوله تعالى: "إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين" [سورة الاَنفال، الآية: 66] إلى آخر الآيتين، وأهل الكيمياء بقوله عز وجل: ّأنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها – [سورة الرعد، الآية: 19]، وأهل التعديل النجومي بقوله "الشمس والقمر بحسبان" [سورة الرحمان، الآية: 3]، وأهل المنطق في أن نقيض الكلية السالبة جزئية موجبة بقوله: "إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب.."[سورة الاَنعام، الآية: 92] وعلى بعض الضروب الحملية والشرطية بأشياء أخر، وأهل خط الرمل بقوله سبحانه: "أو أثارة من علم"[سورة الاَحقاف، الآية: 3]، إلى غير ذلك مما هو مسطور في الكتب؛ وجميعه [2]يقطع بأنه مقصود لما تقدم. وبه تعلم الجواب عن السؤال الرابع، وأن قوله: "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والاَرض وما خلق الله من شيء..."[سورة الاعراف، الآية: 185] لا يدخل فيه من وجوه الاعتبار علوم الفلسفة التي لا عهد للعرب بها ، [3]ولا يليق بالأميين الذين بعث فيهم النبي الأمي صلى الله عليه وسلم بملة سهلة سمحة. والفلسفة – على فرض أنها جائزة الطلب – صعبة المأخذ، وعرة المسلك، بعيدة الملتمس، لا يليق الخطاب بتعلمها كي تتعرف آيات الله ودلائل توحيده [4] للعرب الناشئين في محض الأمية؛ فكيف وهي مذمومة على ألسنة أهل الشريعة منبَّه على ذمها بما تقدم في أول المسألة. فإذا ثبت هذا؛ فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل غير مطلوب في الشرع. فإن كان ثم ما يتوقف عليه المطلوب؛ كألفاظ اللغة وعلم النحو والتفسير وأشباه ذلك؛ فلا إشكال أن ما يتوقف عليه المطلوب مطلوب؛ إما شرعا وإما عقلا حسب ما تبين في موضعه». من "الموافقات" لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790 ه) بعناية الأستاذ مشهور حسن آل سلمان. ------------ 1.ما ذهب إليه المؤلف – رحمه الله – هنا لا يصح على إطلاقه؛ انظر تعليق الشيخ عبد الله دراز والشيخ محمد الخضر حسين على ما يشبه كلام المؤلف هنا في الهامش 3 و 4 أسفله [ميثاق الرابطة]. 2.أي وجميع المسطور في هذه الكتب يأتون فيه بما يدل على القطع بأن هذه الآيات مقصود منها ما استدلوا عليه؛ يعني أنها تكلفات لا تليق بلسان العرب ومعهودها [التعليق للشيخ عبد الله دراز رحمه الله]. 3.إذا نظرنا للحديث الصحيح: "بلغوا عني ولو آية؛ فرب مبلغ أوعى من سامع"؛ مع العلم بأن القرآن للناس كافة، وأنه ليس مخاطبا به خصوص طائفة العرب في العهد الأول لها؛ بل العرب كلهم في عهدهم الأول وغيره وغير العرب كذلك؛ إذا نظرنا بهذا النظر لا يمكننا أن نقف بالقرآن وبعلومه وأسراره وإشاراته عند ما يريد المؤلف. وكيف نوفق بين ما يدعو إليه من ذلك، وبين ما ثبت من أنه لا ينضب معينه؟ والخير في الاعتدال. فكل ما لا تساعد عليه اللغة ولا يدخل في مقاصد التشريع يعامل المعاملة التي يريدها المؤلف؛ أما ما لا تنبو عنه اللغة ويدخل في مقاصد الشريعة بوجه فلا يوجد مانع من إضافته إلى الكتاب العزيز؛ ومنه ما يتعلق بالنظر في مصنوعات الله للتدبر والاعتبار وتقوية الإيمان وزيادة الفهم والبصيرة [التعليق للشيخ عبد الله دراز]. 4. من الآيات المبثوثة في السماء والأرض ما يكفي في إدراكه النظر الفطري، ومنها ما يدرك بمزاولة قوانين علمية. ولا مانع من أن يبقى القسم في الآيات المرغب في تدبرها؛ فإن النظر الذي يحث عليه مثل قوله تعالى: "قل انظروا ماذا في السماوات والاَرض"[سورة يونس، الآية: 101]، لم يحد بنهاية أو ينص فيه على طرق معين [التعليق للشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله].