فكرة المجالس العلمية هي فكرة قديمة في تاريخ الدولة الإسلامية، وقد برزت في المغرب في العهد المرابطي والموحدي، وكان يطلق عليها مجالس الفقهاء، ولم يطلق عليها "المجالس العلمية" إلا في العهد المريني ثم السعدي. وفي العهد العلوي احتضن ملوك الدولة العلوية هذه المجالس العلمية وشجعوها، وأمروا بفتح باب المناقشة بين العلماء. وكان العلماء من ملوك هذه الدولة يدلون بدلوهم في هذه المساجلات، وكان من فضائل هذه المجالس، ومن نتائج أعمالها أنها "أعادت الاعتبار" إلى أصول الشريعة الإسلامية بدل التمسك "بالخلافات الفرعية المذهبية" عند إصدار الأحكام والفتاوى. واشتهر من بين هؤلاء الملوك سيدي محمد بن عبد الله الملك العالِم، كان يصطفي نخبة من العلماء للمذاكرة والدراسة في حله وترحاله، وكان يعقد معهم الجلسات العلمية ويذاكرهم في الحديث ورواياته، وفي "غريبه وصحيحه وسقيمه"، ويبعث للغائبين منهم "بالرسائل العلمية"، كما كانت هِمته منصرفة أيضا إلى علوم التفسير والسيرة والفقه، له تآليف عديدة في علوم الحديث، والفقه، والتصوف، من أشهرها: "الفتوحات الإلهية" وهو تأليف في الحديث، كتب مقدمة هذا الكتاب المحدث الرباطي سيدي المدني بلحسني رحمه الله. وقد استجلب سيدي محمد بن عبد الله عددا من العلماء والمحدثين، والفقهاء من جهات مختلفة من المملكة المغربية وأقامهم بمدينة مراكش، ووزعهم على مساجدها ليدرسوا العلم، ويفقهوا الناس فيه، ويؤموا بالمصلين، ويقوموا بالوعظ والإرشاد وخصوصا في أيام الجمعة. فكانت هذه المجالس "المحمدية" بمراكش أساس اجتماع المجالس العلمية الحديثة عند ملوك الدولة العلوية. وقد أقتفى أثره الملك العادل المولى سليمان، فقد نالت دراسة الحديث في عهده بالمجالس العلمية مقاما متميزا، كأصل أساسي من أصول الشريعة الإسلامية، وإن كانت دراسة المختصرات الفقهية قد نالت أيضا حظها من العناية والاهتمام. كما كان ابن أخيه المولى عبد الرحمان بن هشام ضالعا في علم الحديث، وعالما بأغلب العلوم الدينية الأخرى. وكان له مجلس علمي تنعقد حلقاته مدة أشهر رجب وشعبان ورمضان من كل سنة تدرس فيها علوم الحديث. وكان أعضاء المجلس العلمي للمولى الحسن الأول "ينتقلون مع السلطان حيثما حل وارتحل". وكان السلطان مولاي عبد الحفيظ عالما كبيرا ومؤلفا ومحاورا للعلماء لا تخلوا مجالسه العلمية بفاس ومراكش من مناقشات يثيرها المولى عبد الحفيظ نفسه، وكانت تثير كثيرا من الردود، وخصوصا من طرف الشيخ العلامة محمد بن عبد الكبير الكتاني. وكانت تعقد هذه المجالس العلمية في شهور رجب وشعبان ورمضان. وكان للمولى عبد الحفيظ ولوع كبير بصحيح الإمام البخاري، جمع علماء العدوتين وأمرهم بدراسته، وكان من بينهم شيخ جماعة رباط الفتح الشيخ المكي البطاوي من الرباط، وأبو الحسن علي عواد من سلا. وقد جمع الشيخ المكي البطاوي دروسه التي كان يلقيها في حضرة السلطان مولاي عبد الحفيظ في كتاب، طبع سنة 1916م تحت عنوان "الدروس الحديثية في المجالس الحفيظية" وتوجد نسخة منه بالخزانة الحسنية. زمن مؤلفات السلطان العلوي: "كشف القناع عن اعتقاد طوائف الابتداع" ألفه للرد على "المتقولين الذين حادوا عن مناهج السنة"، و"ياقوتة الحكام في مسائل القضاء والأحكام" إلى آخر مؤلفاته.. "كالجواهر اللوامع في نظم جمع الجوامع". وسار محمد الخامس رحمة الله عليه على نفس الخطة الحميدة. فكان يحيي في كل شهر رمضان الدروس العلمية الحديثية، التي كانت تحضرها الهيئة المخزنية ونخبة جليلة من علماء المغرب، وكان يدرس في حلقاتها كتب الصحاح كالبخاري ومسلم، وما تشتمل عليه من حكم وأحكام وأصول. ولقد كان لحلقات الدروس العلمية التي كانت تعقد أيضا طيلة السنة بمساجد الرباط وزواياها في عهد مولانا محمد الخامس طيب الله ثراه، أثرها البارز في تحدي السياسة الفرنسية"، التي كانت ترمي إلى تفويض المقومات المغربية الدينية والقومية والوطنية. وكانت هذه الحلقات العلمية تستمر من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء. وقد أثبت المرحوم الفقيه محمد بن محمد الأزرق في "مذكراته" قائمة لهذه الحلقات العلمية وعلمائها. وقد عرف بالمحدثين في هذه الدروس المرحوم الأستاذ عبد الله الجراري في كتابه: "أعلام الفكر المعاصر بالعدوتين". وهكذا كما يقول الشاعر: عهود من الآباء توارثها الأبناء******* بنوا مجدها لكن بنوهم لها ابنى وقد ورث العاهل المغربي الملك الحسن الثاني رحمة الله عليه هذه السنة الحميدة عن أجداده الميامين، تيمنا بالقرآن الكريم وتبركا بأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، طبقا للحديث الشريف: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم إلا ونزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده..." إلى آخر الحديث. فسار عليه النهج الصالح بإحياء هذه السنة الكريمة علما "بأن من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة". وحافظ عليها، وجدد في شكلها وتوجيهها، وبث فيها روحا جديدة، وجعل يستدعي لها طائفة من علماء الإسلام من المشرق والمغرب، وصفوة من علماء المسلمين المنتمين لمختلف القارات. ومن مميزات هذه المجالس العلمية الحسنية أنها أصبحت بمثابة ندوة إسلامية عالمية واسعة تعقد في المغرب كل شهر رمضان، تكون فرصة للتلاقي وتلاقح الأفكار، وتمتين الروابط بين علماء المسلمين، كما أنها تفقه الناس في أمور دينهم ودنياهم، وتفتح أبصارهم وبصائرهم على تشريعاته الدنيوية والدينية، وتبرز من خلالها العطاء الفكري والحضاري الإسلامي المتميز، "على أساس من التفتح الفكري الناضج والاستيعاب العلمي الواعي" و"الاستنباط الدقيق". ومن مميزاتها كذلك أنها تنقل محاضرتها إلى الناس كافة عن طريق وسائل الإعلام السمعية والبصرية، فيستفيد منها العالم والطالب، الحاضر والغائب، وأصبح بذلك الانتفاع بها والاسترشاد بهديها ميسرا للجميع على حد سواء. وقد اعتادت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تخليدا لهذه الدروس الحسنية، وتنفيذا للتعليمات الملكية السامية أن تسجله على أشرطة الفيديو، وتخرجها في مجلدات خاصة لأجل تجسيد هذه الدروس وتوثيقها ليستفيد منها جيل بعد جيل. وهذه منقبة أخرى من المناقب العلمية الحسنية. ومن معالم هذه الدروس أنها تكون بعد إلقائها موضوعا للمناقشة بين العلماء الحاضرين، ومناسبة للحوار العلمي، وذلك لإبراز بعض النظريات الأخرى التي لن يتأتى لها الإدلاء بالحضرة المولوية تطبيقا للحكمة القائلة، إذا اجتمعوا جاؤوا بكل فضيلة****** ويزداد بعض القوم من بعضهم علما ومن أنجُم هذه الدروس الحسنية وعلمائها الفطاحل عبر السنوات الماضية. الذين وافاهم الأجل المحتوم بعد أن أفادوا ونوروا الأفكار وفتحوا الصدور للعلوم النافعة المرحومون بكرم الله الأساتذة: علال الفاسي، والرحالي الفاروقي، ومحمد فاضل بن عاشور التونسي، وسيدي عبد الله كنون، وأحمد عبد الرحيم عبد البر المصري، وحسن الزهراوي، ومولاي عبد الواحد العلوي، وصبحي الصالح اللبناني، والفقيه الورزازي... وغيرهم إلى جانب الأحياء من العلماء والدكاترة الأجلاء الذين يتحفوننا بمحاضراتهم النيرة في هذه الدروس الحسنية كلما حل شهر رمضان بهذه الربوع. وقد توج جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه هذه الدروس الرمضانية بأن عمد بنفسه في السنوات الماضية إلى المساهمة الفعلية في إلقاء بعض دروسها، مبرهنا بذلك على مشاركته الفعالة في العلوم الدنيوية والدينية، وعلى قدرته الفائقة على معالجة دقائق العلوم، وطرق باب الاجتهاد بمعرفة شاملة وشخصية علمية مستقلة. فكان موضوع المحاضرة التي ألقاها في شهر رمضان 1387ه، 1967م بالضريح الحسني هو شرحه القيِّم للحديث النبوي الشريف: "كم من رجل لو أقسم على الله لأبره" فتحدث جلالته في شرحه عن مهام الراعي وعن الإسلام كخاتمة للرسالات السماوية، وعن الأديان السماوية الأخرى ومدلولها، وعن أنبيائها ورسلها، وختم حديثه بالكلام عن معجزة القرآن وشمول الرسالة المحمدية. كما ألقى جلالته درسا آخر في رمضان سنة 1388ه، 1968م تناول فيه رحمه الله تفسير قوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والاَرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" [سورة الاَحزاب، الآية: 71] أبان فيه جلالته عن اطلاع واسع وخبرة بدقائق التنزيل، وعن فهم نير وحكمة صائبة. فتحدث فيما تحدث عنه عن الأمانة في الإسلام وشرحها بالمسؤولية وعن المعنى الحقيقي للساعة، وعن "الدين النصيحة" إلى آخر ما جاء في تفسير جلالته. كما اختتم جلالته الدروس الحسنية لرمضان 1398ه، الموافق لسنة 1978م بدرس في التفسير، فسر فيه جلالته الآية القرآنية الكريمة: "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ما تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" [سورة لقمان، الآية: 33]. وقال جلالته رحمه الله في تفسيره: إن الله تعالى صنف الساعة أصنافا: فهناك الساعة الاجتماعية والأخلاقية، وهناك الساعة السياسية، وهناك الساعة الكونية. فالساعة الأخلاقية والاجتماعية هي أن تلد الأمة ربتها فتنعدم المقاييس، وتنعدم الموازين وتتخرب البيوتات، أما الساعة السياسية فهي أن يقلد الناس أمر المسلمين غير المؤهلين، وهي المقصودة بالحديث الشريف: " إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها فانتظر الساعة". ثم تعرض جلالته فيما تعرض له الحديث عن الديمقراطية، مبرزا بأن أحسن نظام لتسيير المسلمين هو النظام الملكي الدستوري أو النظام الجمهوري البرلماني المبني على الديمقراطية الحقة... قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له". فها نحن بصدد العلم الذي ينتفع به يقول الملك الراحل رحمه الله في اختتام الدروس الحسنية لرمضان 1410ه وإن المواضيع التي درست أثناء هذا الشهر المبارك العظيم، حاولت أن تكون مواضيع تلم بجوانب حياة المسلم، عربيا كان أم عجميا، إفريقيا كان أم أسيويا، أمريكيا أم أوربيا، حاولت أن تكون مملة بجوانب حياته الخاصة والمدنية والوطنية. ولله الحمد فقد شفت تلك الدروس غليلنا وأصابت هدفنا، وبلغت غايتنا، ذلك أنها أظهرت لنا أن المسلم ودينه توأمان لا يمكن أن ينفصل بعضهما عن الآخر. فحينما نقول الدين، يعتبر الناس كلهم وحتى من المسلمين أننا نعني بذلك العبادات فقط، والحالة هذه أنه إذا كنا نقول دائما: الدين المعاملات فعلينا أن نزيد أن الدين هو السلوك، والسلوك أظن أكثر مسؤولية من المعاملات؛ لأن في المعاملات يدخل دائما شخص ثالث أو أشخاص آخرون، أما في السلوك فيبقى المرء مسؤولا شخصيا أمام مرآته التي هي سلوكه. فإذا كان في سلوكه يتمشى ويعيش بتعاليم القرآن وبتعاليم السنة النبوية وبالتعاليم الأخلاقية المسلمة، سيكون ذلك المواطن الصالح الذي يرتكب الفواحش ولا يزيغ عن الطريق المستقيم، ويؤدي ضرائبه ويكون منتظما قي سيره، كان بسيارة أو بدراجة أو حاملة لركاب أو شاحنة للأثقال، إذا كان سلوكه هو لا ضرر ولا ضرار، وإذا كان سلوكه إماطة الأذى عن الطريق، وفي هذا الباب كثير ما يقال أصبح المواطن المسلم، كيفما كانت لغته وجنسه ولونه وقارته، صاحب سلوك مسؤولا يمكن لجاره أن يعتمد عليه ويمكن لبلديته أن تعتمد عليه، ويمكن لوطنه الصغير أن يعتمد عليه، وبالتالي يمكن لأسرته الكبيرة أسرة لا إلاه إلا الله محمد رسول الله أن تعتمد عليه؛ لأنه رجل تسلح بسلوك القرآن وكمله وتممه بسلوك خاتم الأنبياء وأفضل المخلوقات في الكون صلى الله عليه وسلم. رحمه الله برحمته الواسعة وأثابه على ما قدم وأخر للإسلام والمسلمين وإنا لله وإنا إليه راجعون..