جرت العادة في أكثر المصنَّفات الّتي تحمل عنوان الحضارة الإسلاميّة، أن تتناول كلّ الظواهر الّتي شهدها المجتمع الإسلاميّ، بين ما هو عقدي وتشريعي وخلقي ولغوي وفني وعمراني وخاصة النواحي المادية.. إلاّ أن مفهوم الحضارة الإسلامية في نظري لا ينضوي فيه كل ما ذكر، ذلك أن الإنجازات المادّيّة الّتي تنتجها أمّة من الأمم من أنواع الاختراعات التقنيّة والعلميّة ليست هي الّتي تميّزها من حيث الهوية عن غيرها من المجتمعات، فهي من مدلولات "المدنية"، واعتبار ذلك من مقومات الحضارة اعتبار عليه غبار، إذ أن الكلام فيه لا يُعدّ في الحقيقة كلاماً على حضارة بحدِّ ذاتها. بل هو كلام على قطار العلوم والمدنيّة والفنون الّذي انطلق منذ بدء التاريخ البشريّ عابراً جميع الحضارات والأمم، لتتزوّد كلّ واحدة منها بما تحتاجه أو يلزمها من حمولته، ولتزوِّده هي بدورها بما قامت بإنجازه وابتكاره. وبتعبير آخر، إنّ الحديث عن المظاهر المدنيّة والعلميّة والفنّيّة في أي مجتمع ليس إلاّ حديثاً عن لَبِنة أو أكثر، وضعها ذلك المجتمع في البنيان المادّيّ الّذي تستهم عليه المجتمعات البشريّة، وقد سبق القول، أنه حتّى الأقوام المتوحّشة لها حضارتها الخاصّة بها، وإن عدت من حيث تطور العلوم ومظاهر العمران والإنتاج الصناعي في مستوى "الصفر". فالحضارة الإسلاميّة هي: "مجموعة الأفكار والمشاعر والأنظمة الّتي جاء بها الإسلام، وصاغ بها ما عُرف في التاريخ بالمجتمع الإسلاميّ". بمعنى أن الحضارة الإسلامية هي في الحقيقة، تمثل استجابة المسلمين لقيم الدين، وانفعالهم بها، وتجسيدها في الواقع. ذلك أن الأساس الّذي قامت عليه الحضارة الإسلاميّة هو الدين الإسلاميّ، وأعني تحديدا: الفكرة الكلّيّة الّتي أتى بها الإسلام عن الكون والإنسان والحياة وعمّا بعدها، والّتي عبّر عنها علماء الإسلام بمصطلح "العقيدة"، وبعد إيمان القلب المدرك والعقل المستبصر بهذا التصور العقدي الذي قدمه الإسلام يأتي بداهة دور تلقّي التشريع، أي دور التسليم والتفويض لله عزّ وجلّ في ما أمر بامتثاله وفي ما نهى بالانتهاء عنه "وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلَا مُومِنَةٍ اِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا اَنْ تكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِن اَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا" [سورة الاحزاب، الآية: 36]. وقد شكلّ مجموع تلك الأحكام الشرعيّة ما يسمّى بالشريعة الإسلاميّة. وهي النظام الّذي ينظّم علاقات الإنسان كلّها، سواء كانت علاقة مع ربّه، التي نظّمها بمجموعة من العبادات، أو كانت علاقة مع نفسه، التي نظّمها بمجموعة من الأخلاق وأحكام المطعومات والملبوسات، أو علاقة مع غيره من الناس، التي نظّمها بمنظومة كبيرة من أحكام المعاملات. وهذه الأخيرة -أي أحكام المعاملات- هي صاحبة الأثر الأكبر في تشكيل حياة الناس في مجتمعهم. إذ بتطبيقها تتجلّى المفاهيم الّتي تحكم سلوك الناس، وهي الّتي تشكّل أنظمة الحكم والاجتماع والاقتصاد والعقوبات والتعليم.... وهكذا تكون العقيدة الإسلاميّة بما انبنى عليها من مفاهيم، وما انبثق عنها من أنظمة، وما نَجَم عنها من مشاعر، هي الأساس الّذي قامت عليه الحضارة الإسلاميّة . .. فالحاصل إن مصطلح "الحضارة الإسلاميّة" يعني: مجموع الأفكار والمفاهيم الإسلاميّة عن الإنسان والحياة والكون، محددة بذلك سلوك الإنسان، وطريقته في الحياة، ونمط معيشته، وتعامله مع الكائنات المحيطة به. ولا تشمل الحضارة الإسلامية بهذا التحديد ما نتج عنها من علوم بحتة، وأشكال مادية أي مظاهر المدنية، فهي ثمرة التطور العلمي الإنساني، وبالتالي لا يجدر نسبها إلى الإسلام بإطلاق لفظ العلوم الإسلاميّة أو المدنيّة الإسلاميّة عليها، بل الأَولى أن يُقال: العلوم لدى المسلمين، ومدنيّة المسلمين في عصر كذا... أي أن تُنسب لأشخاص المسلمين وواقعهم التاريخيّ لا للإسلام بوصفه عقيدة وشريعة. ولقد عبّر "أحمد شلبي" أيضاً عن هذا المعنى في كتابه "موسوعة التاريخ الإسلامي" حين قرّر آنذاك «الحضارة الإسلاميّة الأصيلة جاءت في الأمور الّتي لم يستطع العقل البشريّ أن يصل إليها بنفسه، جاءت في نظم السياسة والاقتصاد والتشريع والأخلاق». واليوم هذه المدنية تؤخذ من الغرب كما أخذها هذا الأخير عن المسلمين فيما مضى، وكما أخذها المسلمون عمن سبقهم من الشعوب حين اتصلوا بهم ونقلوا عنهم أشكال أبنيتهم وملابسهم وأوانيهم وغيرها مما لا يتناقض مع عقيدة الإسلام ومفاهيمه عن الحياة. وبتقرير هذا المعنى للحضارة الإسلاميّة قد يظن أنه تم تضييق مجالها، وهو أمر لا يصح، ذلك أنّ الكلام عن أنظمة الإسلام التي تصوغ حياة المسلمين هو في الحقيقة كلام عن ثروة عظيمة، وبحر هائل من الأحكام والقوانين والأنظمة الّتي بذل فقهاء المسلمين منذ مئات السنين -ولا زالوا حتّى اليوم - جهوداً جبّارة لإبرازها والتعبير عنها، الأمر الّذي تجلّى في تلك الموسوعات الضخمة من مصنَّفات الفقه الإسلامي، وما اقتضته من دراسات وفنون كدراسات اللغة العربيّة، وعلم التفسير، ومصطلح الحديث الشريف، وعلم أصول الفقه، وعلم تراجم الرجال... فالحضارة الإسلاميّة هي حضارة "الإسلام" فهي بالتالي نتاج إسلامي خالص، أنتجها ما نزل على النبيّ عليه الصلاة والسلام من وحي تمثَّل في مصدرين أساسيّين: القرآن والسنّة. فمنهما استقى المسلمون عقائدهم ومفاهيمهم الأساسيّة والفرعيّة، ومنهما استنبطوا تشريعاتهم وأنظمة حياتهم، وهما اللّذان صاغا مشاعر المسلمين وسلوكهم وعلاقاتهم وعيشهم بنظام دقيق متكامل يطال كلّ جوانب الحياة دون إغفال أي منها. فالإسلام إذن هو الّذي شكّل النمط الحضاريّ للمجتمع الإسلامي، هذا المجتمع الّذي تَمَثّل أمّة منتشرة في بقاع الأرض -ولم يكن العرب إلاّ جزء صغيراً منها-. وأمّا المستوى المدنيّ والتقنيّ والعمرانيّ، فلا شكّ أنّ النهضة الحضاريّة تسهم في إعلاء صرحه، إلاّ أنّه ليس بحدّ ذاته دليلاً على الرقيّ الحضاريّ في أيّ مرحلة من المراحل. بل قد يكون في بعض الأحيان مؤذناً بانحطاط سياسيّ، وتفكّك مجتمعيّ، واندثار حضاريّ، كما كان شأن الحضارة الرومانيّة في أواخر عهدها...