قال الله تقدست أسماؤه: (أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ ءامَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الاََرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاََيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [سورة الحديد/الآيتان: 15- 16]. نزلت هذه الآية على سبيل الحض والعتاب والتقريع للمؤمنين، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين." وقال ابن عباس -رضي الله عنه-: "عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن". والمقصود ب"الذين آمنوا" إما بعض منهم كانوا مقصِّرين عن طليعة المؤمنين وسراتهم يومئذ، فأراد الله إيقاظ قلوبهم بهذا الخطاب على عادة القرآن في التعريض والتنبيه كقوله تعالى: (وَطَائِفَةٌ قَدْ اَهَمَّتْهُمُ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ)[سورة ال عمران/الآية: 154]، وإما أن يكون المقصود جميع المؤمنين تحذيرا لهم من التقصير والقسوة والجفاء، لا أنهم تلبَّسوا بذلك، والمعنى: فليحذر الذين آمنوا من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب من قبل. وما وقع فيه أهل الكتاب أنهم نسوا حظا مما ذكروا به، فخالفوا أحكام الله ولم يخشوا عقابه، يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا، ونبذوا كتابه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا، وأخذوا يتحللون من الدين رويدا رويدا ومرحلة مرحلة، حتى قست قلوبهم بمعنى صلبت، وقل خيرها، وضعفت عزيمتها على الرشد، ورغبتها في الطاعة، وسكنت إلى المعاصي، وهتكوا المحارم، ففعلوا من الدواهي والطوام ما تعرفونه، فآل أمرهم وحالهم كما قال سبحانه: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) يعني أن كثيرا منهم تجاوزوا الحد -من قسوة القلب وموت الضمير- فنبذوا دينهم، وحرفوا كتابهم، وقتلوا أنبياءهم، ورضوا بالمنكر وعملوا به. ثم قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاََيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وهذه الجملة هي بيت القصيد، والمَرام العظيم من هذا الدرس القرآني كله، وهو الإرشاد إلى وسيلة الإنابة إلى الله، والرجوع إليه، والخشوع لذكره. ففي قوله: (أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الاَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) تشبيه حال ذكر الله والقرآن في إصلاح القلوب وتطهيرها من القسوة والجفاء بحال المطر في إصلاحه الأرض وتخصيبها بعد الجدب. وكأنه يقول: تعاهدوا أنفسكم بالموعظة، وأقبلوا على القرآن وتدبره، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمه، وأقبلوا على دلائل الكون وسنن الاجتماع وتأملها، والاعتبار بها، إن في اللجوء إلى جميع ذلك نجاة لكم، وفي المفزع إليهما عصمة وأمنا من تلكم الآفات. ودائما يضرب الله -عز وجل- المثل بالماء؛ لأنه لا حياة للعالم والكون والإنسان من دونه على نحو قوله: "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الاَرض بعد موتها" [ سورة البقرة/ الآية: 164]، وقوله: "فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الاَرض بعد موتها" [ سورة فاطر/ الآية: 9]، وقوله: "والذي نزَّل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون " [ سورة الزخرف/ الآية:10] ، وقوله: "أنزل من السماء ماء فسالت اودية بقدرها" [ سورة الرعد/ الآية: 19]، وقوله: "فانظر الى أثر رحمت الله كيف يحيي الاَرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير،" [ سورة الروم/ الآية: 49] وكذلك حاجتنا إلى الماء المعنوي: وهو العلم، والعمل، والقرآن، والذكر، والتوبة، ويقظة الروح، كما قال ابن تيمية -رحمه الله-: "ذكر الله للإنسان كالماء للسمك فانظر كيف يعيش السمك بعيدا عن الماء"، فإذا تحققت بهذا المعنى يكون قلبك قد تطهر بنور العلم، ولاَنَ بماء التوبة والاستغفار، واستشعر الحاجة إلى البذل والعطاء والعمل الصالح والتعلق بالحقائق العالية. وهكذا تدرك أن ما يرمي إليه القرآن من تحذير المؤمنين من التشبه بالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْاَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، إنما هو الحرص على أن تظل القلوب حية متصلة بالله، ريانة في كلامه، متفقهة في أمره، والحرص على إبعاد المؤمنين عن حالة الجفاء بينهم وبين دينهم وأمر ربهم في أي مجال وعلى أي صعيد. واذكروا معي أن هذه الآية نزلت في مجتمع يقف على ذروته بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- كبار الصحابة الذين لو كانت نبوة بعد محمد بن عبد الله لكانت فيهم، ومع ذلك جاء القرآن يحذرهم وينذرهم، ترسيخا وتثبيتا لخط أصيل، ومنهج متين على المسلم أن يلتزمه إزاء رسالة الوحي؛ هذا المنهج عنوانه وقوامه باختصار: يقظة الفكر، وقوة الاعتبار، وصحو الضمير، والعزم المصمم على الرشد، والاستجابة التلقائية للأمر دون تلكؤ، والاستقامة عليه مهما طال الأمد... إن قسوة القلب تعني في القرآن معاني كثيرة قد تند عن الحصر والتتبع في هذه المقالة، وأقل ما تعنيه أن يصبح المسلم في جانب، ومبادؤه وأحكامه وقيمه ومُثله في جانب آخر، ليس على المستوى العقدي فحسب، بل على مستوى العمل والسلوك أيضا، وهذا مجلبة لمقت كبير "يأيها الذين ءامنوا لم تقولون ما لاتفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" [ سورة الصف/ الآيتان: 2_3]. إن المؤمن في ثباته على الحق ويقينه بصدق ما وعده الله به لا يعنيه طول الأمد وقصره، أو اختلاف الزمان وتغيره؛ فالقرآن هو القرآن، والسنة هي السنة، والفطرة التي فطر الناس عليها هي الفطرة، والمسؤولية أو الأمانة لا يغير من حقيقتها أنك في الزمن الفلاني، أو العصرالفلاني، أو الموضع الفلاني... أمانة التكليف تتأبى على هذا الضرب من الاعتبار والتصنيف. وفي ضوء ذلك نقرأ وصية عمر لسعد بن أبي وقاص حين أمره على جيش العراق فقال:" يا سعد، لا يغرنك من الله أن قيل لك "خال رسول الله" وصاحب رسول الله، فإن الله لا يمحو السيء بالحسن، وإن الله ليس بينه وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربهم وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- منذ بعث إلى أن فارقنا فالزمه، فإنه الأمر. هذه عظتي إياك، إن تركتها ورغبت عنها حبط عملك وكنت من الخاسرين". ومن ثم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:"اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"، وقال سلمان الفارسي -رضي الله عنه-: "إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس الإنسانَ عملُهُ". ومعنى هذا كله أن مراقبة الله جل وعلا، وذكره، والعمل الصالح، والعلم والحكمة والدعاء من أقوى الأسباب في تليين القلوب، وترقيقها، وطرد قسوتها، ومكافحة جدبها. ولاسيما الدعاء، فإنه مخ العبادة، بل هو العبادة نفسه، وهو رأس الأدوية النافعة التي وصفها الناصحون لهذا الداء الوبيل. ولكن غفلة القلب وهُزَاله وضعفه وعدم إقباله على الله كما ينبغي، والحضور فيما هو بصدده، تبطل قوته: أعني قوة الدعاء، وتوهن أثره، فيكون بمنزلة القوس الرخو جدا، فإن السهم يخرج منه خروجا ضعيفا. وإليكم نمطا عزيزا من الأدعية النافعة صدرت عن قلب خاشع، قال منصور بن عمار -رحمه الله-: حججت سنة من السنين.. فخرجت في ليلة مظلمة وإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل يقول: إلهي وعزتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بمكانك جاهل، ولكن خطيئتي عرضت لي، وسولت لي نفسي، وأعانني عليها شقائي، فغرَّني سترك المرخى عليَّ، فعصيتك لجهلي، وخالفتك لشقوتي، فمن عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واحسرتا إن قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، ويلي كلما كبر سني كثرت ذنوبي، ويلي كم أتوب وكم أعود، أما آن لي أن أستحي من علام الغيوب. ما اعتذاري وأمر ربي عصيت حين تبدي صحائفي ما أتيت، ما اعتذاري إذا وقفت ذليلا قد نهاني وما أراني انتهيت، يا غنيا عن العباد جميعا وعليما بما قد سعيت، ليس لي حجة ولا لي عذر فاعف عن زلتي وما قد جنيت... اللهم اعف عن زلتي وما قد جنيت، وإلى لقاء قريب...