يعتبر علماء التربية أكثر الناس تداولا لمفهوم الأخلاق نظرا لارتباطه بالعملية التربوية التي تهدف إلى تكوين الإنسان وإعداده لأداء دوره المنوط به. ولقد أحاط الإسلام الإنسان بمجموعة من الأخلاق النبيلة التي من شأنها أن تحقق له إنسانيته وخلافته، بل إننا نجد حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- : (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[1] #_edn1 يكاد يحصر مهمة رسالته عليه السلام، ورسالة المسلمين من بعده، في إتمام بنيان صرح القيم العليا بشتى أنواعها. وفي قوله عليه -الصلاة والسلام- "لأتمم" إشارة طريفة إلى أن رسالة الإسلام القيمية رسالة استئناف واستصحاب ومواصلة، لا رسالة ابتداء وانقطاع. فهي تنظر إلى ما أبدعه الإنسان في كل زمان ومكان من قيم عظيمة وأخلاق عالية فتضمها مباشرة إلى منظومتها، ثم تواصل سيرها في هذا الكون الفسيح بحثا عن قيم حضارية سامية تتحقق بها كرامة البشرية. وحيثما وجدتها فهي أحق الرسائل بها، معلنة للناس أجمعين أن هذه مهمتها وغايتها، ولن تتوانى في قبول أي عرض أخلاقي وقيمي يخدم الإنسان ويرفع شأنه ويحقق كرامته. ونظام الأخلاق المثلى والقيم العليا أهم ما تتصف به الحضارات الإنسانية الراقية، وهو عين ما جاء به الوحي، بل إنه تميز عن غيره حين ارتبطت فيه القيم بالتصور الاعتقادي، وأضحى نظام حياة الإنسان المسلم كله على صلة وثيقة بهذا التصور. وهكذا فإن أول مكرمة خلقية يمكن الحديث عنها في هذا الصدد هي خلق الإيمان، وهي القيمة الأخلاقية التي تنبني عليها أواصر عديدة. وقد جاءت رسالة الإسلام لإتمام هذه المكرمة الخلقية بقيم روحية أخرى مثل وحدة الخالق وتوحيده، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والإخلاص والصدق، والخوف والرجاء، والأمل والاطمئنان والثبات، والقضاء والقدر، والحب والرضا، وغيرها من الأخلاق التي توثق الصلة بالله عز وجل، وتحيي القلوب، وتعالج أمراض النفس والروح. ثم كذلك من مكارم الأخلاق خلق «التعلم» ووجوب طلب العلم. وجاءت شريعة الإسلام لتتم هذه المكرمة الخلقية بخلق «الإتقان» حتى يصفى العلم من شوائب الغش والخداع والتدليس والتزوير والتحريف، وذلك احتراما لكرامة الإنسان الذي يتعلم. ثم أضاف إلى ذلك خلقا ثالثا وهو خلق «الأمانة» التي تحكم سير العلم في حياة الناس وتضبطه، وهو بمثابة رقابة تحمي المجتمع والفرد من تسلط العلم عليهما، وتوجهه الوجهة التي تجلب المصلحة وتدفع المفسدة، وتسخر نتائج العلم لكل ما يعود بالنفع والخير العميم على الإنسان. ثم بعد هذا توج الإسلام هذه المكارم الأخلاقية العلمية بخلق "الإحسان" الذي يراد من خلاله أن يبتغي العالم والمتعلم من العلم وجه الله سبحانه وتعالى فيحسن في القصد والمقصود. ومن مكارم الأخلاق المعلومة في أمور السياسة وقضاياها: العدل والشورى، وتحقيق الأمن، وإقامة النظام. وهذه القيم معروفة بالضرورة عند كافة أفراد الأمة، بل يحرصون أشد الحرص عليها تفاديا لما من شأنه أن يحدث خللا في الحياة السياسية. وقد جاء الإسلام فأتم هذه الأخلاق بقيم أخرى من قبيل الصلاح والإصلاح، والنزاهة والاستقامة، والسمع والطاعة، والانضباط، والتناصح، والتعاون على الصالح العام.. فشكل هذا كله عقدا أساسيا يربط بين مكونات الأمة ربطا تنتظم معه شؤون الحياة العامة بما يتحقق به الاستقرار والأمن والطمأنينة والأمان. وحتى لا تضيع مكارم الأخلاق الاجتماعية المتمثلة في الإخاء والمحبة، والتعاطف والتراحم، والتكافل والتضامن وغيرها، عمدت رسالة الإسلام إلى إتمام هذه المكارم بمكرمة خلقية أخرى تحفظ المجتمع الإسلامي وتقيه من التفكك وتعصمه من الانحطاط، وهي خلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث شبه المجتمع بالسفينة الوارد وصفها في حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا. فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن يأخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا).[2] #_edn2 هذه النجاة الجماعية هي التي سعت رسالة الإسلام لتحقيقها من خلال إتمام مكارم الأخلاق وحث الناس على التخلق بالأخلاق الفاضلة. بل إن الله سبحانه وتعالى أرسل إلى الناس رسولا ليكون أسوة حسنة وقدوة أخلاقية رفيعة حتى ينبهم جميعا إلى الأنموذج البشري المطلوب اتخاذه مثالا يحتذى به لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا. رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن سعد في الطبقات، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، ورمز له السيوطي بعلامة الصحة، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير، وهذا الحديث جاء بألفاظ متقاربة منها (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) وكذا (إنما بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق). ---------- 1. #__edn1 رواه البخاري في الأدب المفرد، وابن سعد في الطبقات، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في الشعب، ورمز له السيوطي بعلامة الصحة، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير. وهذا الحديث جاء بألفاظ متقاربة منها (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) وكذا (إنما بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق). 2. #__edn2 رواه البخاري في صحيحه، والترمذي في السنة، باب الفتن، 12.