4. مراعاة إبراز الأغراض والأهداف التي ترمي إليها عملية التعلم تقوم التربية الإسلامية على ضرورة مراعاة مصالح المتعلم وأغراضه المشروعة، وأعتقد أن المربين المسلمين الأولين ما كانوا ليحققوا ما حققوه من التبريز والسعة والتعمق في العلم، لو لم تكن لهم الرغبة الشديدة في التعلم، ولو لم تكن لهم الأغراض الواضحة من وراء تعلمه، "فتحديد الأغراض والأهداف التي ترمي إليها العملية التعليمية، تجعل المتعلم يقبل عليها في شغف وشوق، وبجد ونشاط، وتشد انتباهه وتركيزه إليها، لكونه يحس أنه يحقق ذاته وآماله ببلوغ تلك الأغراض والأهداف". ولقد اهتم المربون المسلمون بتحديد أغراض التعليم، وبتحديد الأغراض التي ينبغي للمتعلم أن يراعيها في تعلمه وطلبه للعلم. وقد حرصوا على أن تكون هذه الأغراض والأهداف مشروعة وشريفة، تتمشى مع روح الدين وتعاليمه وتوجيهاته، وفي مقدمة الأغراض التي ذكروها لطلب العلم "التقرب إلى الله وطلب رضاه وحسن طاعته، وطلب العلم لذاته والتعمق الواعي في حقائقه بعيدا عن بواعث الرياسة والمباهاة، والمنافسة والوصول إلى العلم النافع في الدين والدنيا ونفع الناس وهدايتهم". وقد استند هؤلاء المربون في تحديدهم للأغراض المشروعة من طلب العلم على كثير من الآيات والأحاديث النبوية، منها قوله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" [التوبة، 122]، وعن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو يريد أن يقبل بوجوه الناس إليه أدخله الله جهنم"[1]. ومن هنا تتأكد ضرورة مراعاة غرض المتعلم ومساعدته على بلورة هذا الغرض، لأن المتعلم عندما يكون له غرض واضح من تعلمه يقبل عليه ويبذل الجهد المطلوب ليحقق غرضه وأهدافه، ومن واجب المعلم أن يساعد تلاميذه على تحديد أهدافهم، من الدراسة، وان يراعي هذا الهدف في عمليات تدريسه وتوجيهه لهؤلاء التلاميذ، ليكون إقبالهم على درسه أكثر. 5. مراعاة تشجيع المتعلم على الفهم واستقلالية التفكير إن التربية في الإسلام إذا كانت تهتم بالحفظ في العلوم الشرعية واللغوية والأدبية لارتباطها بالرواية والنقل، "فإنها لا تهمل الفهم والتفكير، وما يرتبط بهما من إدراك للعلاقات والروابط المتضمنة في الخبرة التعليمية أو الموقف التعليمي، ومن نظرة شمولية وتكاملية لأية مشكلة، ومن أصالة واستقلال في التفكير، بل اهتمت بذلك تمام الاهتمام، وطالبت المشتغلين في حقلها بما فيهم المعلمون المرشدون، أن يراعوا هذه الأمور كلها في جميع أوجه نشاطهم وأعمالهم التعليمية التربوية"[2]، وذلك لأن هذا المبدأ يحفز المتعلم على الخلق والابتكار والإبداع والجدة والتجديد والأصالة والاستقلالية في التفكير. فهذه الأمور كلها حرص المربون المسلمون على مراعاتها في طرق تدريسهم وفي أعمالهم وكتاباتهم العلمية، وحاولوا تعويد تلاميذهم عليها، واعتبروا بناءها لديهم ضمن الأهداف المرغوبة للتربية، حتى تؤتي هذه الأخيرة ثمارها في إعداد العقول الخلاقة المبدعة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاد بن جبل، عندما أجابه بأنه سيجتهد برأيه في القضاء الذي لا يجد له نصا في كتاب الله وسنة رسول الله، لقوله: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله"[3]، وقوله عليه الصلاة والسلام أيضا: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"[4]. ولا نريد أن نسترسل في ذكر النصوص والشواهد المؤدية لهذا المبدإ، فيكفي ما ذكرنا، وفي تراثنا الإسلامي متسع لكل من يريد أن يستزيد. وما قصدنا في هذا الفصل وفي الفصل الذي قبله إلا الإشارة البسيطة الموجزة إلى بعض الحقائق والمبادئ والأسس التي تقوم عليها فلسفة التربية الإسلامية، وإلى بعض النصوص الشرعية المؤيدة لها في حدود ما اتسع وقتنا للاطلاع عليه من تراثنا التربوي الإسلامي يتبع في العدد المقبل.. ————— 1. سنن الدارمي، ج. 1، ص: 104-105. 2. د. محمد التومي الشيباني، فلسفة التربية الإسلامية، ص: 451. 3. سنن أبي داود، ج: 4، ص: 330-331. 4. سنن ابي داود، ج: 3، ص: 301.