من مقاصد الدعوة بذل الوسع في إقامة الحجّة على الناس بسلطة البيان لا بسلطة الإكراه، ذلك لأنّ البيان هو المرتكز الأول والركن المعتبر الذي ينبني عليه التكليف والمسؤولية، ويترتب عليه الحساب والجزاء، ويعوّل عليه في تحقيق المقاصد العليا لهذا الدين؛ وهو الذي تقوم به الحجة، ويتم به البلاغ، ويوصّل به ما في خطاب الله لعباده من الهدى والبينات؛ والأدلة على ذلك كثيرة منها قوله تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" [إبراهيم، 5]، "نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" [الشعراء، 194-195]، "وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ" [النحل، 44]، "هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ" [آل عمران، 138]، "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ" [المائدة، 69]، "رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ" [النساء، 164]. وهذا الأصل له شرائط ومقتضيات كثيرة؛ أقتصر منها على مقتضيين مهمّين وهما: 1-القدرة على تقصيد الخطاب ينبغي إنشاء القول على وزن الرسالة التي نريد توصيلها للناس، وأن تصاغ المقاصد والمعاني بعبارات سهلة وكلمات واضحة ودقيقة بقدر الإمكان، بحيث يكون فهمها موحّداً، وأن تصاغ على شكل نتائج متوقعة. وبهذه الطريقة سيجد الداعي نفسَه يتحرّى القول البليغ، والعبارة الجزلة، والكلمة المناسبة، والأساليب المعتدلة والملائمة في الخطاب… ولا يخفى أن القدرة على التقصيد متوقفة على وضوح الرؤية؛ ووضوح المعاني وحسن تنسيقها وتنظيمها في ذهن المتكلم… وإذا كنا نعتب على بعض الدعاة الجسارة على مخاطبة الجمهور بطريقة عشوائية و"لفظية" وغير منظمة؛ فلأنهم في الغالب لا يملكون وضوح الرؤية، ولا يدرون ما الأهداف ذات المدى القريب أو البعيد التي يريدون الوصول إليها؛ وقد ترى أن كثيراً من القضايا التي يتعرضون لها مبنية على سوانح وخواطر تطرأ على أذهانهم من هنا أو هناك، بل ترى أحياناً أن بعضهم لا يبذل أدنى جهد في تحرير منهجه وبرنامج أهدافه، ولهذا تراه يجتر كثيراً من أقواله وأقوال غيره بدون بصيرة ! إن وضوح الرؤية والمقاصد يُسعف بالاعتبار بالماضي، والاستبصار بتحديات الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل، ويدفع المرء إلى رسم خرائط واضحة يعرف فيها بدقة: ما الموضوعات التي سوف يتحدث عنها؟! وما المبادئ العليا والقواعد الكلية التي ينطلق منها؟! وما "الرسالة" الأساسية التي يريد توصيلها؟! وما الأمراض الفكرية والسلوكية التي يقصد معالجتها؟! وما أنسب السبل لتحقيق ذلك؟ ويستبين الأولويات التي ينبغي البدء بها، ويحدد طريقة المعالجة ونحو ذلك مما يعدّ من بدائه الأمور التي لا غنى عنها. 2-تحصيل المعرفة العلمية الضرورية واعتمادها والانطلاق منها في صياغة أي خطاب أو معالجة؛ وهذا بدوره يقتضي جمعا واطلاعا واستقراء للمعلومات والأفكار والدراسات الأكاديمية والبحوث الميدانية وتوثيقها وتنظيمها لتيسير الاستفادة منها بحسب الموضوع الذي يراد الكلام فيه… يتبع في العدد المقبل…