واعتبارا لما سبق، أودّ أن أعرض تصوري المتواضع لإعادة هندسة الفعل الدعوي وتجديد منهجه وأدائه وأثره، انطلاقا من ثلاث شُعَب، أو ثلاثة أصول؛ لا يغني فيها أصل عن أصل؛ وهي: الأول: وضوح الرؤية وتحديد القصد؛ الثاني: العمل من خلال فقه" التوصيل" كما قال الله تعالى: "وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" [القصص، 51]، وهذا أصل له تعلّق بوسائل العمل الدعوي وتراتيبه وخططه ومؤسّساته؛ الثالث: المنهج الدعوي من حيث الأخلاق بقسميها: أخلاق الفكر، وأخلاق الفعل. ففيما يتعلق بالأصل الأول وهو: وضوح الرؤية وتحديد القصد، فهو أساس المنهج كله، وملاك الدعوة كلها، وإليه يشير قول الله تعالى على لسان شعيب عليه السلام: "وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الاِصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب" [هود، 88]. وقوله تعالى على لسان الرسل: "وما علينا إلا البلاغ المبين" [يس، 16]، أي الواضح البين الذي لا غموض فيه كما قال العباس رضي الله عنه موقوفا: "لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ترككم على طريق ناهجة"[1] أي بينة واضحة. فبداية البدايات أن يكون الداعية على بصر مما يدعو إليه كما قال الله تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" [يوسف، 108]؛ أي على بينة من أحكام أمره ومقاصد شرعه. ومقصد الداعية إلى الله الأسنى هو الدعاء إلى الدار الآخرة؛ إذ هي دعوة الله جلَّ جَلاَله، كما قال: "وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ" [ يونس، 25]، ودعوة رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. فمسؤولية أهل العلم وأهل الدعوة تعبيد الطريق للناس للفوز برضا الله تعالى، فهذا هو الأصل الأكبر والمقصد الأعظم للمشروع الدعوي الإسلامي؛ دلالة الخلق على الحق أي على الله تعالى وتوحيدهم له وتعظيمهم إياه، حتى يكون الله أحبّ إليهم مما سواه. وهذا الأصل قاضٍ على كلّ ما ينبني عليه، ولا يجوز إلغاؤه أو التقليل منه بتضخيم فروعِه وتقديمِها عليه أو حتى مساواتِها به. وزيادة في بيان هذا المعنى وتوضيحه، أستشهد بكلمة للشيخ سيدي عبد السلام ابن مشيش رحمه الله، حيث قال: "من دلّك عَلى العَمَل فقد أتعبَك، ومن دلّك على الدنيا فقد غشّك، ومن دَلّك على الله فقد نَصَحَك"[2] لأن الدّلالة على الله تعالى هي دلالة على معرفته بما يليق بجلاله وجماله، والتّرقي في مقامات عبوديته، إسلاما وإيمانا وإحسانا. والدلالة على العمل قد يُنسي العاملَ ربّ العمل ويَشغَله عمله عن أن يكون له ذاكرا. وهذا الضرب من العمل في الشرع لافائدة من ورائه ولاطائل "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع"[3]. ولهذا قال ابن أبي جمرة الأندلسي: "وددت أنه لو كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي على كثير من الناس إلا من تضييع ذلك"[4]. ويمكن القول بأن بعض الأنماط من الخطاب الدعوي المعاصر نسي أنه خطاب دعوة ودلالة على الله تبارك وتعالى، وصار من حيث يدري أو لا يدري خطابا سياسيا أو إعلاميا أو فكريا، وقد نأت به هذه النعوت والعوارض أحياناً عن أن يقيم الحجّة، ويُبلّغ الرسالة، واشتغل عنها بالتجاذب والتناوش مع الخطابات السياسية والإعلامية والثقافية المخالفة… وغالبا ما تطغى الحظوظ على النفوس في غمرة التناوش والصّراع… يتبع في العدد المقبل… —————————- 1. مصنف عبد الرزاق الصنعاني، تحقيق، حبيب الرحمن الأعظمي، ط. المكتب الإسلامي-بيروت، الطبعة الثانية ، سنة 1403ه، 5/434. 2. إيقاظ الهمم في شرح متن الحكم لابن عجيبة، نسخة إلكترونية، 1/6. 3. أخرجه أحمد في المسند، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرين، ط. الرسالة، إشراف، د عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط. مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 ه – 2001 م، 15/428 برقم 9685، وابن ماجه في سننه، تحقيق : محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر، دار الفكر – بيروت، 1/539 برقم 1690 واللفظ له، وغيرهما. 4. المدخل لابن الحاج المالكي، ط. دار الفكر، سنة النشر 1401ه – 1981م، 1/6.