ثانيا. انفكاك العلوم الإسلامية من النص المؤسس حين تنفك العلوم الكونية من مصدرها الكون، يكون اندحارها! هل تتصور علم البيولوجيا La Biologie بدون الرجوع إلى الكون وإلى الكائنات الموجودة فيه؟! هل تتصور "علم" البوتانيكا La Botanique في انفكاك عن النباتات وعن الكائنات التي هي موضوع هذه العلوم؟! هل تتصور علم فيزياء La Physique دون الرجوع إلى الكون؟! وللتذكير فإن هذه العلوم الكونية ما أخذت بُعدها الحقيقي إلا بعد أن أحدث القرآن نقلة المقاربة الآياتية وتفكيك المجملات من خلال القدرة على تسمية الأسماء، ونقلة عرض العقل البشري باعتباره مكتشفا ومستنبطا ومنظّما للعلوم وللمعرفة وليس مولِّدًا لهما من خلال قوله تعالى: "قُلْ سِيرُوا فِي الاَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ" [العنكبوت، 19]. وقوله سبحانه: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَا ءَايَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً" [الاِسراء، 12]؛ وغيرها من الآيات التي تحض الإنسان على السير في الأرض والنظر إلى المعطيات لصياغة العلوم، واكتساب المهارات والخبرات. وحينحدثتهذهالنقلةظهرتقضيةالجبروالمُقابلةفيالرياضيات؛أي: التسديد والتقريب، واكتشف الصفر كما اكتشفت اللوغاريتمات وغير ذلك مما لا يتسع المقام للإفاضة فيه، كل ذلك من خلال الارتباط بالكون الذي هو موضوع هذه المعارف والعلوم والردّ إليه انطلاقا من هذه النقلة التي أحدثها القرآن المجيد. تصوّر معي لو أن هذه العلوم انفكت عن الكون ماذا كانت سوف تكون النتيجة؟! الأمرُ لاشك بالخطورة نفسها حين يكون انفكاك العلوم الإسلامية عن الوحي، حين انفصل علم أصول الفقه عن الوحي من خلال توقّف الحوار مع الآيات ومع الأحاديث، كان من الآثار المباشرة لذلك، الانحسار في ما سبق من الاستنباطات باعتبارها مصدر هذا العلم فأصبح اشتغال من تلى من العلماء منحبسا في جهود من سبقهم شرحا وتحشية وتذييلا، عوض أن يكون هذا الاشتغال منصبا على الحوار مع النص المؤسس، استفهاما واستلهاما واستكشافا واستنباطا… يتبع في العدد المقبل…