حين انفصلت علوم التفسير عن الآيات المفسّرة وانحسرت في التفسيرات التي سبقت، دون تفكير في تطوير مناهج استنطاق الوحي والحوار معه انطلاقا من تمظهرات واقع الإنسان المختلفة التي تبرز معها حاجات متجددة، وتستدعي حلولا مستأنفة من القرآن المجيد، حصل نوع من الجمود في علوم التفسير، وأصبح سقفها محددا بسقف المجامع التفسيرية التي ألفها العلماء الأماجد السابقون، الذين أدّوا الذي عليهم وكان على الذين من بعدهم أيضا تأدية الذي عليهم بدورهم… وكذا الشأن في سائر العلوم الإسلامية حيث آثار هذا الانفصال بارزة في المناهج والنتائج. فحين يكون انفكاك هذه العلوم من المعطيات والآيات التي في الوحي فإنها تصبح علوما نظرية مبنية على التفريعات والتخريجات المهَوِّمة في التنظير. وجب أن تكون هذه العلومُ، إذن، متصلةً بمصدرها الذي هو الوحي، كما أن العلوم الكونية متصلةٌ بمصدرها الذي هو الكون… وإلا فالسلبية والانحسار. ومن هنا فإن ثلاث مشاكل رئيسة تعترضهم اليوم: المشكلة الأولى: هي كيف يُفقه النص، وما هي آليات وضوابط فقه دينامي متجدد ووظيفي للنص؟ وكيف يمكن التمييز بين الثابت في اجتهادات السابقين وبين ما هو قابل للتحول والتغير؟. وقد سبق أن قال ابن القيم: في كتابه "إعلام الموقعين": فصل في تغير الفتيا بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأعراف.. قال: وهو فصل عظيم النفع جدا قد دخل على الناس من فرط الجهل به ضررٌ عظيم. فما هي آليات وضوابط التمييز بين الجوانب الثابتة والجوانب القابلة للتجدد في الفقه الإسلامي؟، وكيف يمكن لفقيه الشريعة الإسلامية أن يطور آليات ومنهجيات التعامل مع هذه الجوانب كلها بنفس مقاصدي يروم جلب المصالح ودرء المفاسد باتزان؟ المشكلة الثانية: هي كيف يُفقه الواقع بكل سماته وبكل تمظهراته بالغة التعقيد والتركيب والتشابك، دون أن يكون هناك جور على أي سمة من السمات، احتذاء بقول من قال: ينبغي أن نجعل كل شيء أبسط ما يمكن وليس أبسط مما يمكن، وبأية مناهج وبأية آليات؟ وما هي التكوينات التي يقتضيها كل ذلك؟ المشكلة الثالثة: في كيفية تنزيل أحكام النص المطلق المتجاوز المهيمن، بطريقة متوازنة، على هذا الواقع المتقلب المتغير العيني المشخص؛ موازنة بين الأفعال، وترجيحا بين المصالح والمفاسد في ضوء وعي شديد بوجوب اعتبار المآلات والعواقب؛ حتى لا تُجلب مفسدة عوض المصلحة التي كانت مقصودة، أو تُفوَّت مصلحة أكبر من أجل مصلحة أدنى… يتبع في العدد المقبل…