السنة وتربية العقل جاءت الدعوة النبوية المحمدية مخاطبة للعقل موجهة إليه، ومتخذة منه حجة على الإنسان، وكل القضايا والأحكام التي تضمنتها الدعوة النبوية معقولة بحيث يستطيع العقل أن يجد البراهين والأدلة والحجج على صحتها، وسلامتها من التحريف والتزييف والتصحيف، وفائدتها للإنسان الفردية والاجتماعية وإقامتها على دعائم الإيمان والخير والفضيلة والعدالة، ولا نغالي إذا قلنا إن الدعوة المحمدية الإسلامية، دعوة عقلية لأنها تعلي من شأن العقل وتجله وتحث على استعماله في التفكر والتدبر والتبصر والنظر والبحث والاستقصاء، بغية الوصول إلى أسرار الكون وإدراك حقائق الأشياء. ولقد وردت أحاديث نبوية كثيرة[1] عن المصطفى عليه الصلاة وأزكى السلام، في شأن العقل، وبتلك الأحاديث النبوية الشريفة وغيرها كثير تمكن الرسول عليه الصلاة والسلام من أن يوجه العقل إلى التفكير والتأمل والتدبر، حتى تزول الحُجب الكثيفة التي تحول بينه وبين الرؤية الصحيحة في الأشياء، وأمكنه كذلك أن يبعث أمة جديدة تعتمد على العقل والتفكير والبحث والاستقصاء، فتفتحت أمامها بذلك آفاق غير محدودة في هذا العالم الكبير، ولذلك استطاعت الشريعة الإسلامية أن تؤاخي بين الدين والعقل، وأن تجعل من هذه الفطرة فطرة سليمة مستقيمة. .1 تمجيد العقل تعتبر السنة النبوية العقل أساس التكليف، والاختيار والتمييز، ولم تمارس عليه أي جبر أو قهر أو إكراه، "ولم نجد دعوة من الدعوات أن نظرية من لنظريات، تعلي من شأن العقل وتمجده كما تُجله وتُمجده الدعوة المحمدية الخاتمة"[2]. إن أهم وأبرز مظاهر إجلال الدعوة النبوية للعقل عدم إجباره وقهره على الإيمان، وإكراهه على العقيدة دون اقتناع ومنهج يستند على الدليل والبرهان والحجة المستقاة منه. فقد أبانت له طريق الإيمان والكفر، وبينت له جزاء اتباعهما وتركت له حرية الاختيار بين الهداية والضلالة، والحق والباطل والجنة والنار، وأقامت عليه الحجة بما أودعه الله تعالى فيه من قدرة على الاختيار والإرادة والإدراك والفهم والتمييز؛ فإن آمن فإلى النجاة وإن كفر فإلى التدني. ولا شك أن تقرير السنة النبوية لحرية العقيدة، ومسؤولية الإنسان عن اختياره وإرادته، يعد تكريما للعقل وإعلاء لقيمته وتمجيدا لشأنه، ومن أهم مظاهر تمجيد الدعوة النبوية للعقل حثها على تنميته وإذكاء قدراته واستعداداته بطلب العلم وتحصيله ما أمكن السبيل، "ولا غرو فإن العقل وعاء العلم ووسيلة حفظه وازدهاره"[3]، وهو "القوة الأساسية لحفظ التراث الحضاري ونقله من جيل إلى جيل، فضلا عن كونه القوة وراء التغيير والإضافة والتجديد والتحسين في هذا التراث"[4]… يتبع في العدد المقبل… ————————- 1. انظر الأحاديث في الفصل الأول. 2. ذ. عبد الحميد الصيد الزنتاني، أسس التربية الإسلامية في السنة النبوية، ص: 512. 3. د. عبد الحميد الصيد الزنتاني، نفس المصدر السابق، ص: 514. 4. د. عبد المنعم صالح العلي، دفاع عن أبي هريرة، ص: 248.