والغمام المسبل هو الشباب إذا نهض، والغيث إذا هطل، هو الذي يملأ الأرض أزهارا وعشبا، وورقا أخضر، بل هو حياض الماء الذي يملأ صهاريج العقول الجافة حياة، ويمد بساط الإنسانية بالظل الظليل في جحيم هواجر الصدور الكاشحة، ويحيلها واحة خضراء يستريح فيها المجهد المكدود، منه تستمد الإنسانية هدايا في مهرجان جمال النفس الأخاذ وبهائها، وينتقل بالبشرية من صبح إلى ضحى، ويتقلب بها على سبحات الشروق من صحو إلى صحو، وهو الكاد على الحق الواله بجمال التواصل، يسقط حلكة الآباد ألف مرة، حتى تصبح أرض الناس قطعة واحدة ملمومة الأطراف، لا إفراط فيها ولا تفريط، ومن قصد الشباب في أمر فلينظر إليه على مهل، ليستمتع بأفعاله استمتاع العين بالجواهر الكريمة، وإذا غاص في لجة الحياة بلغ أعماقها كغواص در وثاقب لؤلؤ يضع الحبة موضعها في العقد الذي يزين به وجه الإنسانية كأنه رش بماء الورد وطيب ماء الزهر، وهنا لابد من الاعتراف أن قدرة الشباب الإبداعية لا تدانيها قدرة، مستخلصة من الفكر الإنساني المبدع الخلاق، لإكساب البشرية أبعادا جديدة، وما يمنحها صفة جديدة بحق، وإلى توفير ضمانات لمستقبل الإنسان. وليس الشباب قامات فارغة: إنه نور في الفكر وكمال في النفس، ونظافة في المعاملات، وصلاح وإصلاح في العمل، ونشاط يحارب التواكل والكسل، وحياة فوارة في كل ميدان، والفشل في كسب الدنيا من الشباب سلبية لا تخلق بطولة، لأن البطولة عطاء واسع ومعاناة أشد، والشباب الذي يعيش في الحقائق لا يتاجر بالأباطيل، ومن رفض الهوان في الأرض فهو رفيع القدر لانتسابه إلى السماء، وهو نبع المودة الدافق، الذي يبدل القلوب من حال إلى حال، وإطماع الناس بأن الإسلام ليس ضمانا للآخرة فحسب، بل إنه أضحى سياج دنيا الناس وضمان بقائهم. والشباب طموح وإرادة لا حد لهما، وليس ثمة عائق يستطيع أن يقف أمامه أو يقهره، إذ لكل عصر رجاله، وحياة الشباب نهر غير قابل للنضوب إنه يمتد من جيل إلى جيل كما تمتد الرياح والنسمات، وإذا كانت ثمة قوى تحرك التاريخ فهي قوى الشباب، وإذا كانت الإنسانية موزعة بين هموم الحياة اليومية اللاهثة من جهة، والبحث عن منطلق جديد يلائم العصر، يدفن فيه زمن الرعب والذعر والخوف من المستقبل، ورغم فترة الركود الذي يشير إلى أمة الإسلام بأنها أشبه برجل مريض محطم تماما، فلقد وجدنا عبقريات كثيرة ولدت في عصور الانحطاط، المعري، ابن خلدون، ابن زيدون وابن حزم وابن زهر وغيرهم كثير ممن تركوا آثارا واضحة في معالم النهضة الغربية الشاملة، التي ارتفعت في سماء الدنيا نجوما وأقمارا بعطاء حضاري واكتشاف العلوم الكونية وأسرارها وخصائصها وتسخيرها. والشباب كباحث وصاحب رأي في التنمية والاهتمام به كمصدر عطاء أصيل في نتاج معطيات الحضارة الحداثية، لمحو روح الكآبة والحرمان واليأس من حياة الناس، كواقع متميز تفخر به البشرية، وكعنصر مرح متفائل يمتص مأساة الإنسان كحارس للسلم الاجتماعي، وحامل عقل جديد، يدير الحياة بذكاء وحس يتفق وحاجات الإنسانية الجديدة، وبما يعين على تجارب مقصدها الأول والأخير الأجود، والكفاح لا مجرد النجاح، وكضمير للعالم كله والداهية البصير بمقدار ما أملاه حسه بدقائق حياتنا العاصفة من أسرار، إذن ففي صدور الشباب سر، فما هو هذا السر الذي يجعله يخوض في عالم المستقبل، أو يحلق برؤاه بين أطيافه وأحداثه من خلال النافذة التي وهبها الله له، وبما يحرك عجلة التاريخ إلى الأمام، وهكذا يمضي الشباب يتعامل مع الحياة والناس كقوة ساحرة ترافق تطور البشرية، دافع ومفسر وملهم، إنه النسمة المحركة لوقود الإبداع والابتكار، ومستنبط الممكن من المجهول، لمحو الشرور من ظواهر الحياة والطبيعة والكون. وما الفهم الجديد إلا جدة تكمن في استقراء الواقع بما هو نافع ورائع، يوم يحس الشباب بحرارة الإيمان بالدين والأوطان والأسر والإنسان، يوم يكون هذا اتجاهه يسمو فوق العنصريات والقوميات، فأصالته وجرأته تأبى عليه إلا أن يحتفل بالناس الاعتياديين والمتألمين، وأن يعلم الآخرين أن يأخذوا الأمور مأخذ الجد ليكون الجميع على يقين مما يأخذون ويدعون، وبما يمكن عليه البشر في الحقيقة والواقع، وكيف يحبون الحياة بجهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياة البشرية، سواء أكان المجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أو غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أو معنوية، إنه الملجأ والاستمرار في هذه الحياة، يحزم حقائبه ويذهب إلى حيث يسكن ذلك الشخص في الكهف والمغارة، لينفض عن رأسه المتعب تراب الإهمال، يرحب به ضيفا مكرما يستروح نسيم الحضارة والتمدن والاقتراب من الناس، يحكي لهم رحلته مع البداوة قبل أن تحطمه هموم الحياة مع هذا الإعياء البادي على وجهه الشاحب، وليتعلم معنى الحياة ومعنى الحب مقتحما مع الآخرين أبواب القرن الحادي والعشرين وهو يموج بالحياة العصرية، وهنا نجد أنفسنا أمام ما حققه الشباب من تناسق وانسجام داخل طواياه لنرى شعاعا من نور التواصل يتسلل حاملا في ثناياه الأمل والحنان والعطف المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان. إلى مجتمع متوافق متصالح مع نفسه في واقع معاش من الحياة الراشدة الحافلة، التي تعلم الناس كيف ينشدون السبيل الذي يعرفهم الحضارة الحقيقية، ويتخيرون من أشيائها جوانب تعمل على إبرازها وتوحيدها. وكل عمل من أعمال الحياة يشترك فيه الشباب مع الآخر، يحتاج إلى حلم وتؤدة لإنتاج توافق بين الشركاء في أمور شتى، يتوقف عليه الكثير من سعادة المستقبل أو شقائه، وبهذا تتوطد العلاقة وتتحسن وتزول الجفوة والشجار المتصل، أو يخف لتتحقق الآمال بعون الله وتوفيقه، والشباب هو القدوة لغيره في إصلاح كل اختلال؛ فالأقوياء بالعلم توجهوا إلى الأرض، فما زالوا يعلون في الأرض، والضعفاء الجامدون انحطوا بالأمة في الأرض، وهذا شأن الكسالى في الدنيا، وهؤلاء هم الداء العضال، والواجب يدعوا الشباب أن يتعرجوا في مصاعد المجد ومراقي العز، كما ترقى غيرهم، هم مفتاح الرقي والنهوض والتقدم، بل هم أولى بذلك وأحرى، فشبابنا رجال وشباب الآخر الراقي في مدارج التقدم رجال، ولكن الذي يعوز الأمة هو العمل ويضرها التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال، ويوم ينفض الشباب غبار اليأس عن الكواهل يتقدم إلى الأمام ويحقق كل أمانيه.. والله من وراء القصد..