مراعاة الخلاف هو أحد الأصول التي اعتمد عليها الإمام مالك، وبنى عليها فقهه، وقد ذكرنا سابقا اختلاف العلماء في عده أصلا أو لا، وهذا الأمر دفع بالإمام الشاطبي إلى التنبيه عليه، بقوله: "قد عد الناس الأدلة ولم أر من عد أصول ماعاة الخلاف أصلا منها"[1]، لكن المعتمد أنه أصل من أصول المالكية، يقول ابن أبي كف في منظومته التي نظم فيها أصول الإمام مالك: ورعي الخلف كان طورا يعمل به وعنه كان طورا يعدل[2]. يقول ابن رشد الجد: "من أصل مالك مراعاة الخلاف..."[3]، ويقول الشاطبي: "وهو – أي مراعاة الخلاف- أصل في مذهب مالك يبني عليه مسائل كثيرة"[4]، ويقول أيضا: "إن مالكا وأصحابه رحمهم الله تجري كثيرا في فتاويهم ومسائلهم مراعاة الخلاف، ويبنون عليها فروعا، ويعلل به شيوخ المذهب الشارحون له أقوال من تقدم من أهل مذهبهم من غير توقف حتى صارت عندهم وعند مدرسي الفقهاء قاعدة مبنيا عليها، وعمدة مرجوعا إليها"[5]، وقال التسولي: "فإن من جملة ما بني عليه مذهبه –أي مالك- مراعاة الخلاف"[6]. ويقول القباب: "فاعلم أن مراعاة الخلاف من محاسن هذا المذهب..."[7]. وفي هذا المقال سنحاول الوقوف عند تعريف مراعاة الخلاف عند المالكية، وذكر شروطه، وأدلته مع إعطاء أمثلة عنه من فقه الإمام مالك. 1. تعريف مراعاة الخلاف عرف الإمام ابن عرفة مراعاة الخلاف بقوله: "إعمال دليل في لازم مدلوله الذي أُعمل في نقيضه دليل آخر"[8]. وقد عرفه القباب بقوله: "إعطاء كل واحد من الدليلين حكمه"[9]. وعرفه ابن عبد السلام بقوله: "إعطاء كل واحد من دليلي القولين حكمه مع وجود التعارض"[10]. وعرفه الرصاع بقوله: "رجحان دليل المخالف عند المجتهد على دليله في لازم قوله المخالف"[11]. كما عرفه محمد صالح الهسكوري بقوله: "الأخذ بأقوى الدليلين معا من بعض الوجوه"[12]. فهذه التعريفات على الرغم من الانتقاد الذي وجه لبعضها فإنها تشتمل على أهم ما يميز مراعاة الخلاف، وهو أن يعمد المجتهد إلى ترجيح دليل المخالف، بناءا على ما تقتضيه المصلحة الشرعية، إذ فلسفة مراعاة الخلاف تنبع من نظرية المصلحة والنظر إلى مآلات الأفعال كما سنرى. أما مثال مراعاة الخلاف: بعض الأنكحة الفاسدة المختلف في فسخها، كنكاح الشغار، فمذهب مالك وجوب الفسخ، وثبوت الإرث إذا مات أحدهما مع أن الأصل العام عند مالك هو أنه لا توارث ما دام الفسخ ثابتا، ولكنه راعى خلاف القائلين بعدم فسخه، فأخذ بدليل المخالف في لازم مدلوله وهو ثبوت الإرث وأخذ بدليله الذي يترتب عليه الفسخ وبذلك جمع بين أمرين إعمال دليله في الحكم وإعمال دليل مخالفه في لازم مدلوله… يتبع في العدد المقبل.. ———————————————— 1. المعيار المعرب، 6/367. 2. إيصال السالك، 30. 3. البيان والتحصيل، 3/419. 4. الاعتصام، 2/145. 5. المعيار المعرب، 6/367. 6. البهجة شرح التحفة، 1/21. 7. المعيار المعرب، 6/388. 8. شرح حدود ابن عرفة، 1/263. 9. المعيار المعرب، 6/388. 10. شرح حدود ابن عرفة، 1/269. 11. المرجع السابق نفسه، 1/266. 12. الفكر السامي، 1/455.