إن إزالة الدونية من النفوس رهن بحبنا للحياة الكريمة وبعضنا البعض، وتبادل الثقة بصدق وإخلاص لحدوث المعجزة، معجزة الثقة التي لا تملك الدنيا أكثر منها، علينا أن ندرس كتاب الطبيعة ونتفهم صفحاته، وننعم النظر في محتوياتها، ونستخلص من معلوماتها العميقة عزاء وسلوى لآلامنا وجراحنا؛ والواقع يحتم علينا أن ننظر إلى الحياة بعين الناقد البصير لمسيرة الإنسانية وتطورها نحو الحياة الأفضل ولخدمة السلام ورفاهية الإنسان، وأن نلتقي مع الآخر ونتحدث، وألا يفقد بعضنا بعضا في زحام الحياة، مهما يكن الأمر عندها يحس كل فرد من هذه الأمة نفسه مندمجا، شعاعا من حزمة ضوئية قوية، قطرة من هذا النهر المؤمن النابع من أبينا آدم وروافده التي تجري في مشارق الأرض ومغاربها في تجدد واستمرار. إن الإنسان المؤمن بإنسانيته يستمد الثقة من رؤية غيره، الكل يحمل روح الجماعة في ذاته، يطرح شعوره بالعزلة والوحدة، والإنسان الطيب يلقى غيره في حركة مستمرة مادامت حركات قلبه نابضة مستمرة، مادام لفكره نبض من عقله. وحاشا لله أن يحرم أحدنا نفسه حتى من اللقاء؟ فلنتقابل وليحاور بعضنا بعضا، وليعرض كل واحد ما عنده على عقل أخيه، ثم ننطلق، كل في طريق، وبين الجوانح ذكريات هاته اللقاءات لإخصاب إنجازاتنا، وكلما صار الأمر على هذه الحال وإن خالطه الألم في بعض الأحيان، يرى النور مع تكاثف الظلمة من حوله، لتوضع الأقدام على الطريق الصحيح رغم الصخور والاشواك؛ لأن ممارسة الزهد أصبحت غير ممكنة، فاللقاء يمنحنا الاحترام المفقود في الساحة البشرية، ويدفعنا إلى روح نضالية قادرة على الخلق والابتكار، حتى نستطيع استقطاب الكثير من طاقات الشباب إلى ماهو أجدى وأنفع. وإذ ذاك يكون لشبابنا الصبر الطويل على العمل والتواصل المتين والحميد بين الأجيال، فالتضامن والتعاون يختصران الطريق ويقترب بهما الهدف البعيد، وفي ذلك تجسيد قيمة الحياة الإنسانية والتعامل معها برؤية مستقبلية واعدة، حتى نجد حلولا للمشكلات التي تعترض مسيرة التقدم الإنساني والحضاري وتجربة التكامل الإنساني لم تبدأ من فراغ، وإنما جاءت هذه الخطوة تعبيرا عمليا عما يربط بين الناس من وشائج راسخة وامتدادا لما ينبغي أن يكون من تعاون على كل صعيد، مما يبشر بالخير ويقدم صورة إيجابية تماما لحاضر ومستقبل البشرية، والهدف من وراء ذلك التنمية ودعم مواردها والقيام بأنشطة إنتاجية وخدمية في كل المجالات. إن التعاون بيننا وبين الآخر هو حلقة التواصل في إطار أشمل للتكامل البشري بأذهان مفتوحة وبثقة كافية في النفس، وإدراك بأننا مجتمعات في بداية الطريق تحتاج لاكتساح الخبرة والمعرفة، وإن إدراك المنافع المشتركة هو المعيار الأساسي للحكم على هذه العلاقات، ولا يغيب عن الأذهان أن العالم مقبل على صيغ جديدة فعلينا أن نجد لأنفسنا مكانا مناسبا فيها. ومن ثمة يكون العمل هو تهيئة المناخ وإفساح المدى لإرادة الأجيال منا ومنهم كي تستقر في عقول الناس ومشاكلهم، وتوتي ثمارها ونتائجها بوضع حد لتيارات من الشك والخوف ومن الكراهية والعداء التي رافقت القدامى وأفسدت عليهم لذة التعارف والتلاقي، وغذتها نعرات إثنية وطبقية وإقطاعية، وآن الأوان أن تعيش الإنسانية حياة كريمة خصبة تعالج مشاكل العصر بعرس تتلألأ فيه البراعم الشابة من أبناء وبنات هذا الكون الفسيح، وهم يحملون شعلة أنبل وأعظم رسالة حضارية لمواكبة التطور، في رحلة إنسانية حتى نضمن وصول الجميع إلى مستوى عال من التفاهم، بفلسفة أهدافها كلها تدور حول تحقيق هدف الإنسان ومعاونته على استكشاف أسرار الكون بالتعاون المثمر مع بني جنسه. إن شبابنا قد أصبح إنسانا جديدا، ونضاله مع نفسه أشد ليكون جديدا أكثر من قبل، إنه خائف أن يتخلف عن عصره، فيعجز عن التكافؤ والظروف والمشاكل، وإن هممه ومواهبه تدفع به إلى الصعود إلى قمم الحياة، فهو من أجل تحقيق الأهداف يضع أفكاره وآماله أمامه بمواقف راقية، وإن أمتنا منذ نصف قرن تنزف من عدة جروح الجرح الاقتصادي من خلال إهدار الثروة، والجرح الأخلاقي من خلال مسخ الشخصية التي تعاني منه أجيالنا التي تبلد حسها إزاء امتهان كرامتها، أضف إلى ذلك الجرح الثقافي، وهي تعيش عالة على غيرها، وضعة في داخلها ونسيت أن كل انفتاح على العالم يفرض أولا وقبل كل شئ ثقة في النفس راسخة وطيدة، وهؤلاء تنكروا لثقافتهم الإسلامية العربية وهي الجنسية والهوية نفسها، هي الأوطان حياة ومنغما في ذات كل واحد منا. والحضارة من صنع الإنسان، صناعة يد وإبداع فكر وعقل، وصانعوا الحضارة يرحلون، وهذه الأخيرة تعيش وتستمر وتكون لنفسها حياة وكيانا مستقلا عن حياة صانعيها، وأنا أتوقع أن شبابنا يملك القاعدة الذهبية التي يرسي عليها المجتمعات الإنسانية المتذبذبة؛ لأنه يحمل الصفات التي يجب أن يتحلى بها العظماء من الرجال، فهم أشبه بالرجل الذي لا يشعر بعظمته فهو يتألم لقدرته المحدودة، ولا يتألم عندما يجد الآخرين من الرجال لا يعترفون له بالقدرة. والشباب هو المؤمل للانتصار على قوى الطبيعة التي حاربت آباءه وأجداده بعنف وقسوة بالصمود والتصميم وبأسلحة العلم والتقنية يستطيع أن يقهر الرمال والأملاح، ويعيد الحياة إلى الأرض المهددة بالموات والخراب لتصبح أكبر واحة، وأنه المنتظر ليعيد الحياة إلى القلوب الجدباء بكل جديد وحديث بجوهره الحقيقي الأصيل، والقوة والجدة، وتنحية ما تراكم على الأذهان والعقول من متحجرات الطباع الجافية خلال عصور التخلف والجمود، رغم أنه لا يزال السواد الأعظم حتى المتعلمين منه لم يزل مفتونا بتلك المتحجرات عاكفا عليها في إصرار عنيد، وحسبها هؤلاء الشباب أنهم يفهمون عن عصرهم التوليد والتجديد على أرض الواقع ولقد أصاب ابن الرومي إذ قال: إذا الأرض أدت ريع ما أنت باذر من الحب فيها فهي ناهيك من أرض ولقد كم يسرنا ويثلج صدورنا أن نرى الشباب بنفسهم الطويل، سفراء أمة الإسلام بالإسلام إلى المسلمين وإلى غير المسلمين، يقدمون حبهم وصداقتهم لكل الناس، بغرسهم الشريف، والدعوة بالقدوة، فالناس يقرأون دعوتك فيما تفعل لا فيما تقول، والعملية التي تبدأ في هذا الاتجاه سوف تستمر وبوسعها أن تنجز الكثير، ومن كان هذا طبعه فهو إنسان حقا لا يموت، وصانع الحياة هدفه كبير، فمن خلاله تنبع ظاهرة التجدد والتغير، ليكون التطور إلى الأرقى دائما، وصانع الانتصار يسقط جميع الألقاب وقديما قال الناس: إن السقيم لا يمنح المرضى صحة وعافية، والبئر المرة العفنة لا تنضح حلوا وإنما تنضح مرا وعفنا. والشباب هم رجال المجتمع بامتياز بأحاديثهم الدالة على مهارة اجتذاب الناس وأسر أفئدتهم، يندفعون بحماس فائق وبتضحية مجردة، في الأزمات العامة والنكبات، فهم أقرب إلى واقع الحياة، كل شئ عندهم يسير وفق نظام مدروس، وهكذا الحياة نفسها كل شئ فيها جديد، وشبابنا هم رجال الغد وحملة مشعل التقدم في المستقبل وورثة الحاضر، فهم يمثلون حياة الإنسان الراشد على أساس من العدل والحكمة والتعاون والإخاء والتكافل، وفي حضنهم نجد الراحة في هذا العالم المجهد المكدود اللاهث، شباب مسلم أصيل يرعى الذمم ولا يخون العهد. وبالشباب يلتئم الشمل ويخيم الصفاء، وتبتسم سماء الأمة ويرتفع شأنها لتمطر للإنسانية خيرا وبركة على ما انساح واتسع هذا الكون، بغايات لا يتسع لها على العمل الكاسب الزمان، غايات تتصل بالقلب، وغايات تتصل بالنفس، وغايات تتصل بالعقل والجسم، تدرج دائما إلى الأمام، وغايات للروح، وللأرواح حاجات غير حاجات الأجسام مفهومة وغير مفهومة، يقف عندها العقل يغوص وراء أشكالها وألوانها، ليستكشف سرا من بعض أسرار هذه الأمة التي لم تحن رأسها خشوعا، وما لغير الله يكون هذا الخشوع وهذا الانحناء، منه تستمد ما يشعر الآخرين بمزيد من التعاون والتفاهم وينطلق الجميع يغني أنشودة الوجود الحضاري الحقيقي الذي ينبع من الإنسان ويصب في الإنسان، يزحف بخطى واسعة ثابتة، لا في أرض الإسلام فحسب بل فيما وراء البحار، يحمل بين جنبيه يقظة الحياة، ونزعة التطور وفرصة التحرر واستئناف عهد جديد. وبالله التوفيق وهو المستعان.