يقول الله عز وجل تقدست أسماؤه وصفاته في محكم كتابه الحكيم: "قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن ياتيني بهم جميعا اِنه هو العليم الحكيم" [يوسف، 83]. وقال جل شأنه: "وتولى عنهم وقال يا أسفى على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم" [يوسف، 84]. سيق هذا الدعاء في مقام قصصي يحكي من خلاله القرآن المجيد ما حصل لإخوة يوسف لما قدموا من أرض كنعان من بلاد الشام إلى مصر لشراء الحبوب. لقد دخلوا على أخيهم يوسف فعرفه وهو له منكرون لقوله تعالى: "وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون" [يوسف، 58]. فبعد أن عرفهم وأكرم وفادتهم طلب منهم أن يحضروا في المرة القادمة أخاهم وإلا سوف لا يبيع لهم الحبوب. لقد رجعوا فطلبوا من أبيهم إرسال أخيهم معهم "بنيامين" فتردد الأب يعقوب عليه السلام، ولكن بعد الإلحاح قرر إرساله بشرط تقديم عهد وتنفيذ وصية[1]. وبعد دخولهم على أخيهم يوسف عليه السلام آوى إليه أخوه بنيامين، ثم احتال عليهم بأن وضع السقاية التي يكتال بها في رحل أخيه واتهمه ظاهريا بالسرقة حتى يحجزه عنده. ولم ينفع استعطاف الإخوة ليوسف لكي يعفو عن أخيهم. فما كان منهم إلا أن رجعوا وحكوا لأبيهم ما جرى. كلها مشاهد يصورها القرآن المجيد ابتداء من قوله تعالى: "ولما جهزهم بجهازهم قال اَيتوني بأخ لكم من أبيكم ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين" [يوسف، 59] وانتهاء بقوله تعالى: "ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون" [يوسف، 81-82]. بعد أن قص إخوة يوسف على أبيهم يعقوب عليهما السلام ما وقع قال-كما يحكي قوله تعالى-: "قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم" [يوسف، 83] [3]. فبحسب يعقوب عليه السلام سولت لهم أنفسهم إخراج بنيامين وإبعاده عن أبيهم من أجل المصلحة والمنفعة المادية، حتى اتهم بالسرقة وما هو في الحقيقة بسارق[4]. ولهذا استعان مرة أخرى بالصبر الجميل دون أن يفقد الثقة والرجاء في ما عند الله من خير فتوجه متضرعا إلى الله بقوله: "عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم". والحق أن هذا إشعاع قوي من يعقوب عليه السلام. نعم لا شك في ذلك ولكن من أين جاء هذا الشعاع إلى قلب هذا الرجل الشيخ؟ يجيب الأستاذ سيد قطب رحمه الله قائلا: "إنه الرجاء في الله، والاتصال الوثيق به، والشعور بوجوده ورحمته. ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة، فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الأيادي وتراه الأبصار"[5]. —————————————— 1. قال تعالى: "قال هل امنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حفظا وهو أرحم الراحمين ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء اِن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون" [يوسف، 64-67]. 2. كان جزاء السارق في شريعة البلد الذي يقيم فيه إخوته أن يسترق. 3. قال الإمام ابن عاشور رحمه الله: "وجملة إنه هو العليم الحكيم" تعليل لرجائه من الله بأن الله عليم فلا تخفى عليه مواقعهم المتفرقة. حكيم فهو قادر على إيجاد أسباب جمعهم بعد التفرق". ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، ج: 15. ص: 41. وقد استجاب الله تعالى لذلك كما يحكيه قوله تعالى: "يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم" [يوسف، 100]. 4. ينظر الرازي، مفاتيح الغيب ج: 18، ص: 157. 5. سيد قطب، في ظلال القرآن، مجلد 4، ج: 13، ص: 2025.