لقد ساد طب يطلق عليه اسم "الطب الروحي"، من أمثلة ذلك أن أبا شعيب أيوب السارية كان "يبرئ العلل بالتفل عليها[1]؛ كذلك الحال مع أبي يعزى "الذي جيء له برجل قعد عن الحركة فمازال يتفل عليه حتى قال"[2]، وذكر أحدهم أنه أصابه وجع شديد في بطنه فمسح أحد الصلحاء بيده عليه "وحرك شفتيه فذهب ألمه بقدرة الله وببركته"[3]. وعالج آخر داء الرمد بوضع يده على عين المريض والتعوذ عليها[4]، واكتفى بعضهم بالنظر إلى موضع الداء ليشفى العليل، كما هو الحال مع الولي أبو الجبل، الذي عالج قرحة في رأس أحد الصبية بالنظر، فإذا هي "كأنها لم تكن"[5]. وكان التوسل إلى الله ببركة أحدهم كافيا لحصول الشفاء، كما حدث مع المرأة، التي رفعت يدها إلى الله قائلة "اللهم إني أسألك بكرامة هذا الفقيه عندك أن تعافيني مما أنا فيه"، فلما أصبحت وجدت نفسها تمشي، بعد أن كانت مقعدة لعدة أعوام.. وكانت بركة الولي تمتد حتى بعد مماته، لذلك استشفى الناس بتراب قبورهم، الذي حظي بمكانة خاصة في العلاج، فهذا الولي أبو عبد الله بن بلال القيرواني المدفون بأغمات أوريكة، مازال أهلها "إلى الآن يستشفون بتراب قبره"[6]. و"تقل الناس تراب ضريح الشيخ أبي يعزى وتراب الشيخ أبي غالب النيسابوري للاستشفاء من الأمراض والقروح المعضلة"[7]، أما "الرابطتان اللتان بقرب جبل إيجيليز حيث المهدي (ابن تومرت) فكان الناس يأخذون التراب منهما فيتبركون به ويجعلونه على المرضى"[8]. كان لجوء الناس إلى التداوي عند هؤلاء يرجع بالأساس إلى قلة تكلفته من جهة، ومحدودية نجاعة الطب العلمي في بعض الأمراض من جهة أخرى، فالكرامة تقضي بوجود أمر يتجاوز قوة البشر، وعجزهم عن مواجهته، فهذا الأمير أبو الوليد إسماعيل بن الأحمر، وجد علاجه عند الولي أبي الربيع سليمان بعد أن طلب عند الأطباء دواءه وأعياه العلاج ويئس من محصول الإنتاج[9]، وتمكن آخر من علاج قرحة في الرأس "أعيت الأطباء ولم ينجح فيها علاج"[10]. ذكر أحدهم أنه ذهب عند أبي تميم عبد الواحد الأسود لعلاج أخته بعد أن عجز الطبيب ابن أفلاطون عن علاجها، فقال له "ذهبت إلى الأطباء بفاس وحقرت عبدك ولم يساو عندك شيئا فخجلت من كلامه وبت عنده فجاءت إليه أختي فسلمت عليه وقعدت أمامه فجعل يحدثها ويمسح بريقه في موضع البرص من وجهها المرة بعد المرة (…) فنظرت إلى وجه أختي فلم أر فيه من البرص شيئا"[11]. وذكر أحدهم أنه كانت تصيبه في شيبته غاشية، فحملته أمه إلى الولي أبي لقمان، فانتظروا بداره إلى أن جاء فقال لها "لست بطبيب فاحمليه إلى الأطباء فقلت له أنا، أما الأطباء فقد عجزوا ولم يبق إلا طب الله تعالى، فلما سمع كلامي قربني ومسح بيده على رأسي فما أصابني الصرع من حينئذ إلى الآن"[12]. وأخبر أبو الخير الأندلسي، أن أحد شبان فاس أصابه الجذام فعجز الطبيب الحاذق المشهور عن علاجه، وقال لعائلته "ما يطب هذا إلا حواري من حواري عيسى عليه السلام، فأيسهم من برءه فرجعوا، فبينما هم أثناء الطريق فمروا برجل من معارفهم وهو يزرع في أرض (…) فأخبروه بالخبر (…) فوجد أي حزِن (…) فأمر به فأحضر بين يديه فمشى يده عليه ونفث وإذا بالشاب قد ذهب عنه جميع ما كان به من الألم (…) ثم قال لهم ارجعوا إلى الطبيب وقولوا له فعل هذا أحد من حواري محمد (ص)"[13]. كما اعتقد الناس بنجاعة العلاج بالأدعية: يقول ابن حجر "التداوي بالأدعية أنجع من التداوي بالعقاقير"[14]؛ ولجأ بعض المرضى إلى الدجالين والعرافين، الذين ينظرون في الأكتاف والغبار والرصاص الدائب[15]. لكن رغم وجود هذه الممارسات العلاجية المرتبطة بالخفي خلال العصر الموحدي، فإن هذا العصر شهد أوجا للمعرفة الطبية العلمية، وهو الشيء الذي ساهم بشكل كبير في ضمان الأمن الصحي، وإشاعة تقاليد الطب العالِم رغم صمود "العلاج الشعبي" ومقاومته. خلال العصر المريني ازدهرت المدارس العلمية، وانتعشت كثير من فروع المعرفة ؛ غير أن الطب خلال هذه الفترة تراجع على ما كان عليه خلال العصر الموحدي، رغم وجود عدد من الأطباء، لكن في غياب أي مشروع واضح لاحتضان الطب والأطباء. ويمكن اعتبار أبي الحسن علي بن أبي الحسن المراكشي أبرز علم من علماء الطب خلال العصر المريني؛ له كتاب في الأمراض السرية وعلاجها وطبائع النساء وضعه باسم خزانة السلطان أبي الحسن المريني، وأيضا أبو العباس الشريشي السلوي الأصل (ت 641 ه/ 1243م)، وأحمد الجذامي السبتي الطبيب المتوفى بمراكش عام 650ه/ 1252م. ومن أطباء العصر المريني أبو العباس الجزنائي، الذي نوه به ابن خلدون، وأبو الحسن علي بن عبد الله بن هيدور التادلي الطبيب الشهير المتوفى عام 816ه/ 1413م؛ اشتهر بالطب وألف فيه رسالة سماها "المقالة الحكمية في الأمراض الوبائية"؛ وهي رسالة في حقيقة المرض الناتج عن الوباء وما هي أسبابه وما وسائل علاجه الطبية. وقد جمع هذا الطبيب بين معرفة طبية علمية وبين طب روحي شعبي يحضر فيه الخفي؛ يتجلى ذلك في توصيته بترديد بعض الأدعية وممارسة بعض الطقوس التي يرى أن التجربة أثبتت فعاليتها، حيث يقول: وقد اخبرني من أثق به أنه جربه في دفع الداء الوبال مرارا يكتبه في بطائق ويلصقه بحيطان الدار فأصاب جميع جيرانه إلا داره[16]. ومن المنظومات خلال هذا العصر أرجوزة أبي الحسن علي المراكشي سماها "بهجة المطالع في الحفظ للمجامع"، وهي منظومة تبحث في تدبير الصحة الجنسية وما يتصل بها.. يتبع في العدد المقبل ——————————————————- 1. ابن الزيات: التشوف، ص: 144، العباس بن إبراهيم السملالي، الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام، مراجعة: عبد الوهاب ابن منصور، المطبعة الملكية- الرباط، ط. الثانية. 1993.ج: 10، ص: 211. 2. ابن قنفذ، أنس الفقير وعز الحقير، ص: 29. 3. الدكالي محمد بن على، الإتحاف الوجيز، الخزانة العلمية الصبيحية بسلا. 1986، ص: 91. 4. بن عيشون، محمد الشراط. الروض العطر الأنفاس بأخبار الصالحين من أهل فاس، دراسة وتحقيق: زهراء النظام، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط، سلسلة: رسائل وأطروحات رقم 35، مطبعة النجاح الجديدة- الدارالبيضاء، ط. الأولى. 1997، ص 302؛ ابن الزيات: التشوف، ص: 217. 5. ابن عيشون، ص: 302. 6. ابن الزيات، ص: 83-84. 7. الونشريسي، المعيار، ج: 1، ص: 330. 8. ابن عذاري، البيان المعرب، قسم الموحدين، ص: 149. 9. ابن عيشون، الروض، ص: 304. 10. نفسه. ص: 294. 11. ابن الزيات، 269. .12 ابن الزيات، 269. 13. كتاب في الفلاحة. 14. ابن حجر، بذل، 170. 15. الونشريسي، ج: 11، ص: 182. 16. ابن هيدور، الأمراض الوبائية، ورقة 2.