بقلم : علاء كعيد حسب حالما بأهله و إخوته، بلون عيونهم و ثيابهم و جواربهم، نقش محمد الماغوط اسمه بين الكبار بعفوية حلم يتسلل إلى السرير و هدوء شبيه بهدوء الجدات، باقترابه من أفئدتنا و إخضاعها بموهبته و ثوران لغته، و نكرانه سخف السلطة و العصر . و كأي شاعر حقيقي ، فجر ذهولنا العاطفي و أوجد المكان المناسب للإنسان في الإنسان ذاته و الصمت، دون أن يرهق نفسه بالسؤال عن جنس ما يكتب، متابعا السرد و الغناء كشمعة عجوز تتلذذ بأنفاسها الأرجوانية الأخيرة و هي تضيء مخيلتنا المفتوحة بما تبقى لها من الرماد و الذكريات. الصور المضيئة و المظلمة، و التساؤلات المصيرية المرتبطة بالإنسان و الهوية و العصر بكل تحدياته و غموضه، تجعل من كل مقطع كتبه الماغوط لوحة فريدة و سفرا أسطوريا في أغوار روح استنبطت شاعريتها من كل ما في الحياة، حتى الشاذ فيها. و فيما تعلو الأنفاس و الأضواء، و تنخفض الأغصان و الأنامل و العيون، يتصادم الوعي و اللاوعي، التحضر و البداوة، الأنا و الوطن، انكسارات الكبر و براءة الطفولة، لتتشكل الأقصوصة بكامل زخمها و أحاسيسها و رؤيتها الكونية للأشياء، و تتفاعل التجليات مع الهواجس في محيط الماغوط و وجدانه. و لعله من الزمرة القليلة من الشعراء التي استطاعت بشاعريتها العالية و أسلوبها البسيط ملامسة الإنسان و مخاطبة روحه. محمد الماغوط و كالسحر، يأخذنا الماغوط على حين غرة، يسرقنا من ذواتنا و يمضي بنا إلى عوالمه لنسمع نواح أشجار بعيدة و نرى جيوشا صفراء تجري فوق ضلوعه، مما يتيح الفرصة للتحرك الايجابي داخل المفارقات الكونية بكل تفاصيلها، عبر الإنسان و الحياة. فالقصيدة التي تنطلق منها بين الفينة و الأخرى، صرخات عميقة تكشف بعضا من وحدة الشاعر و ألمه بينما يسير بقدمين جريحتين على قلب أمة و في مفاصله ينبض الفرح و يتشابك وجوده مع كل شيء و يتوالد ليصبح أكثر من نجمة صغيرة في الأفق، هي نفسها القصيدة التي تبدأ الليلة أو صباح غدٍ، حيث الغيوم الشتائية الحزينة تحمل له رائحة الأهل و السرير و السهرات المضيئة بين أشجار الصنوبر. لهذا، فالنص "الماغوطي" ساحة للسجال الفكري و التقلبات العاطفية، و هو من دون شك، مهلة ناذرة للتأمل في محيطنا البشري و البحث عن جوهرنا الإنساني. و مع مرور الزمن لم تفقد كتاباته بريقها الجمالي و قيمتها الأدبية، لأنها ابتعدت عن تطبيق القواعد و المفاهيم، و اكتفت بالتعبير عن الذات بأكبر عفوية و صدق ممكنيين، في محاولة للتذكير بأن جوهر الشعر عنفوانه. و رغم العديد من الدراسات الأكاديمية و المقالات النقدية التي تناولت تجربة الماغوط الإبداعية، سيبقى الأخير بعيدا عن متناول واقعنا، قريبا من أحلامنا، كأكبر دليل على أن الشعر حيوي، و حاجتنا إليه تفوق حاجة الأرض للماء.