اللقاء الدراسي مع المجتمع المدني والإعلام حول مشروع قانون الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها كلمة افتتاحية للسيد عبد السلام أبودرار رئيس الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة الأربعاء 30 يناير 2013 السيد الوزير، السادة رؤساء وممثلو الهيئات والجمعيات، السيدات والسادة الأفاضل، بداية، يسعدني أن أرحب باسمكم بالسيد الوزير المكلف بالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني على تفضله بترأس الجلسة الافتتاحية لهذا اللقاء الدراسي، معربا لكم جميعا عن جزيل شكري على تلبيتكم دعوة المشاركة في أشغال هذه المدارسة المخصصة لمشروع القانون المتعلق بالهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها. وأود، في مستهل هذه الكلمة، أن أؤكد على أن الهيئة المركزية تعتبر لقاء اليوم مع فعاليات المجتمع المدني والإعلام حلقة أساسية في العقد التشاركي الذي يؤطر آليات اشتغال الهيئة، سواء في نطاق التعددية التمثيلية التي تشكل الذراع المجتمعي للهيئة الحالية، أو في ظل المفاهيم الجديدة للحكامة التشاركية التي أضحت أمرا لا غنى عنه في الممارسة المؤسساتية الحديثة. كما يسرني أن أعترف بأن لقاء اليوم معكم يشكل بالنسبة لنا محطة مهمة في مسار النقاش الذي فتحناه لاستجلاء تصورات وآراء مختلف المعنيين حول المقتضيات القانونية الكفيلة بإرساء إطار تشريعي يضمن للهيئة الوطنية للنزاهة المنصوص على إحداثها بمقتضى الدستور مقوماتِ الوقاية والمحاربة والاستجابة بفعالية لمتطلبات مكافحة الفساد ببلادنا. حضرات السيدات والسادة، اسمحوا لي، تمهيدا لعرض مقومات هذا المشروع القانوني، أن أُذَكّر بأن الهيئة المركزية أخذت المبادرة، من موقعها كقوة اقتراحية، بإعداد مشروع قانون حول الهيئة الوطنية المرتقبة وأَحَالَتْهُ، بعد المصادقة عليه من طرف أجهزتها التقريرية، على الأمانة العامة للحكومة قصد نشره بالموقع الإلكتروني المخصص لهذا الغرض، لإتاحة الإمكانية للأشخاص والمنظمات المعنية للتعليق عليه وإبداء الرأي بشأنه. واعترافا منها بأهمية مجموعة من الملاحظات المقدمة في هذا الشأن، وأخص بالذكر منها المقترحات الجادة والهادفة التي تقدمت بها الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة، قامت الهيئة المركزية بإدراجها في مشروع القانون وإعادة ضبط مجموعة من مقتضياته على ضوئها، قبل أن تحيله في صيغته الجديدة على الأمانة العامة للحكومة قصد إعادة نشره مصحوبا بجواب الهيئة المركزية على كل التعليقات المقدمة. وأود، بعد هذا التذكير، أن أطرح على أنظاركم أهم المحددات التي أطَّرت مقتضيات هذا المشروع القانوني والمتمثلة في: أولا: المقومات الدستورية للهيئة الوطنية للنزاهة التي حسمت في مبدإ الاستقلالية ومجال التدخل والصلاحيات والمرجعية القانونية، ثانيا: قرار المجلس الدستوري بتاريخ 4 فبراير 2012 الذي حسم في البعد القانوني لمبدإ الاستقلالية وامتداداته على مستوى العلاقات مع الهيئات الدستورية الأخرى، ثالثا: قرار المجلس الدستوري بتاريخ 3 يونيو 2012 الذي حسم ضمنيا في الجهة المؤهلة للتعيين بالهيئة، بعد أن استثنى جميع المناصب العليا التي تكتسي "صبغة دينية أو قضائية أو تهم المؤسسات المستقلة دستوريا"من خانة المناصب التي يُعَيِّن فيها رئيس الحكومة، رابعا: توجيهات بيان الديوان الملكي بتاريخ فاتح أبريل 2011 التي أقرت للهيئة المرتقبة بمسألتين أساسيتين: توسيع مجال تدخلها ليشمل مختلف أشكال الفساد، وتخويلها صلاحية التصدي المباشر لهذه الأفعال، خامسا: الدروس المستخلصة من تقييم تجربة الهيئة المركزية التي حتمت استثمار نقاط القوة في المرسوم الحالي، مقابل ضبط وتصحيح بعض مواطن القصور التي شابت هذا المرسوم أو أبانت عنها الممارسة. بعد هذه التوضيحات، سأنتقل لأُقارب معكم الإشكاليات الأساسية التي أثارتها لدى الهيئة المركزية عمليةُ التفاعل الموضوعي مع المحددات المرجعية السابقة. لا يخفى عليكم أن أول إشكال واجَهَنا هو المتعلق بتصريف مفهوم الاستقلالية؛ حيث تَرَسَّخَ الاقتناع لدى الهيئة بضرورة توضيح هذا المفهوم ورسم حدوده واستحضار الآثار المترتبة عنه، الأمر الذي وضعنا أمام حتمية إرساء مقتضيات تتعلق بالتوصيف القانوني للهيئة الوطنية المستقلة، وبالتموقع المؤسساتي، وبالمراقبة المالية، وبآليات التعيين، وبالصيغة التمثيلية المتنوعة والمتوازنة للأعضاء. أما الإشكال الثاني الذي صادَفَنا، فَيَهُمُّ تحديد نطاق تدخل الهيئة الوطنية والمهام المنتظرة منها على ضوء الإشارات العامة المضمنة بمقتضيات الفصلين 36 و167 من الدستور، الأمر الذي دفعنا من جهة، إلى اعتماد مفهوم شمولي لأفعال الفساد المشمولة بتدخل الهيئة، ومن جهة ثانية، إلى تكريس مجموعة من الصلاحيات التي تترجم منطوق ومفهوم الدستور، والتي تشمل الوقاية والتحسيس والتواصل، وتؤسس لمهام المكافحة والتصدي لأفعال الفساد. أما بخصوص الإشكال الثالث الذي واجهنا فهو المتعلق بتأليف الهيئة، حيث برز أمامنا سؤال جوهري يتعلق بالصيغة المثلى لتأليف وصلاحيات الأجهزة التقريرية التي تَضْمَنُ في نفس الآن الاستقلالية وفعالية النهوض باختصاصات ومهام الهيئة. في هذا الصدد، اعتبرنا التمثيليةَ الحالية للهيئة المركزية نموذجا متميزا يمكن إعادة إنتاجه بالنسبة للهيئة الوطنية المرتقبة، مُنْطلِقينَ من كون استقلالية الهيئة تجد أيضا بُعْدَها في إطار التعددية التمثيلية النابعة من المجتمع، ومقتنعين بضرورة مراعاة مبدإ الاستقلالية وما يستدعيه من مراجعة كمية ونوعية على مستوى التمثيلية لضمان توازناتها، ومراعاة الصلاحيات الجديدة وما تستلزمه من توزيع موضوعي بين الأجهزة التقريرية لضمان اتخاذ القرار بالنجاعة والراهنية المنشودة. أما الإشكالُ الرابع الذي واجه الهيئة المركزية فهو المتعلق بآليات تفعيل مقتضيات الفصل 171 من الدستور التي تنص على أن تأليفَ وصلاحياتِ وتنظيمَ وسَيْرَ عملِ مؤسسات وهيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة تُحدَّد بمقتضى قوانين، وهو ما حدا بنا إلى التساؤل حول مدى اعتبار هذا الفصل إجابة ضمنية حاسمة من الدستور مفادها أن المجال الحصري لتأطير مقتضيات الهيئة الوطنية هو القانون، وبالتالي سد الطريق أمام اللجوء إلى أي قنوات تنظيمية خارجية قد يؤثر اعتمادها على الاستقلالية المنشودة للهيئة. بالنسبة لهذا الإشكال، استقر الرأي على ضرورة الاستجابة لمنطوق ومقصود المقتضيات الدستورية في اعتبار النص القانوني للهيئة الوطنية الإطارَ الوحيد الذي يستوعب المقتضيات المتعلقة بالصلاحيات والتأليف والتنظيم وسير الأعمال. إلا أنه من منظور الفعالية التشريعية، ارتأينا ترحيلَ المقتضيات التفصيلية ذات الطبيعة التنظيمية إلى النظام الداخلي والأنظمة الأخرى المتعلقة بالتنظيم المالي وبالهيكلة الإدارية وبنظام الموظفين. وبخصوص الإشكال الخامس والأخير الذي واجهنا في إعداد هذا المشروع، فيتعلق بالضمانات القانونية التي تخول للهيئة الوطنية الانتقال باقتراحاتها وتقييمها واستشارتها وتحرياتها من مستوى الطرح والاقتراح إلى مستوى الفاعلية والتطبيق. لتحقيق هذه الغاية، واستنهاضا لروح التعاون المطلوب بين مختلف السلطات والهيئات المعنية، جاء المشروع متضمنا لعدة مقتضيات ترمي على الخصوص إلى تعزيز موقع الهيئة المرتقبة في المسار التشريعي ذي الصلة بصلاحياتها، وضمان فعالية مهامها في مجال التصدي المباشر، ومواجهة الحالات المحتملة لعدم التجاوب مع صلاحياتها من طرف الإدارات أو الأشخاص المعنيين بتحرياتها، وتثبيت حقها في تتبع مفعول توصياتها ومعرفة مآل تحرياتها. حضرات السيدات والسادة، لقد شكلت هذه المحاور، التي ستتم مقاربتها بتفصيل في الجلسات الأربع لهذا اليوم الدراسي، موضوعَ نقاش مستفيض استغرق عدة اجتماعات على مستوى الجموع العامة للهيئة، وتطلب منا تنظيم مجموعة من الأيام الدراسية التي تم خلالها التماسُ الخبرة الأجنبية في الموضوع. وتم أيضا الاطلاعُ على الأطر التشريعية لعدة هيئات مماثلة على المستوى الدولي، إضافة إلى الاستئناس بالمقتضيات القانونية الممنوحة لمختلف المؤسسات الوطنية التي تشتغل في مجال المساءلة والضبط والتقنين، كل ذلك وصولا نحو إطار تشريعي يمتلك المقومات المنشودة للوقاية والمكافحة والحكامة. ومن شأن لقاء اليوم أن يشكل لبنة جديدة لتعزيز هذه المكتسبات بالنقاش العميق والبَنَّاء الذي نتوقعه من كل الفاعلين الحاضرين معنا، حتى نساهم في إغناء هذا المشروع الذي سنكون مدعوين جميعا بعد ذلك إلى تجنيد مختلف القنوات المتاحة لمناصرته ومؤازرته خلال جميع مراحل المصادقة عليه، تحقيقا للتطلع المشترك الذي يحدونا نحو إرساء إطار تشريعي يتوفر على مقومات مكافحة الفساد ببلادنا. أتقدم إليكم بجزيل الشكر على حسن إصغائكم مقرونا بخالص عبارات التقدير والامتنان على مشاركتكم في هذا اللقاء الدراسي ومساهمتكم المرتقبة في إنجاح أشغاله. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.