عند منعطف يقود إلى مستشفى الرازي للأمراض العقلية والنفسية بسلا تستقر زاوية النساك مثل امرأة عجوز ومشردة (65 سنة) طردت للتو من هذا المصح تجتر مرارة الإهمال والنسيان غير آبهة بجرافة عملاقة ترابض بجوارها كما لو كانت تستجديها أن تطلق عليها رصاصة الرحمة وتحيلها إلى ركام يعفيها من هذا الإحساس الرهيب بالجحود والتجاهل من قبل نسبة كبيرة من السلاويين الذين لا يعرفون شيئا عن هذا المبنى الذي كلف أبا عنان المريني أموالا طائلة دون أن يدري أن رغبته النبيلة في مساعدة الفقراء والمعوزين سيستغلها البعض لإنتاج براريك بمواصفات عصرية. بعد أن تقمصنا دور الغريب، حاولنا استفسار بعض المارة عن طبيعة المكان لتحضر الميم بقوة ليس بهدف الارتياح كما يقول المثل، بل لأن الواقع فرضها، حيث أشهر العديد جهلهم دون حرج، كما اعتبر آخرون بيقين يحسدون عليه أن الأمر يتعلق بمقبرة قديمة لليهود أو ضريح ولي مجهول، في حين اختصر أحدهم الكلمات ونطق وفمه يرسم ابتسامة هازئة.. زبالة. المعلومات التاريخية عن هده الزاوية رغم شحها تجعلها من أقدم الزوايا بمدينة سلا، حيث أنشأها السلطان المريني أبو عنان سنة 1356م، على بعد 500م شرق باب فاس خارج أسوار المدينة، بالقرب من ضريح سيدي أبي العباس، وذلك بهدف إيواء الوافدين على المدينة من الغرباء والمنقطعين للعبادة وذوي الحاجة، وكذا أعيان الدولة و كبرائها. كما تذكر المصادر أن هذه الزاوية كانت من أبهج وأنزه المنشآت المرينية، أما الآن فلم يبق منها إلا بعض الجدران والمدخل الرئيسي الذي لازال يحتفظ ببعض الزخارف والنقوش إضافة إلى آيات قرآنية اختفت الكثير من حروفها. من حسن حظ الزاوية أن بابها الأثري لازال في مكانه ولم تطله أيادي نهب التاريخ، في حين لقي باب صغير نفس المصير الذي لقيته عدة مدافع أثرية اختفت من أسوار المدينة لينتهي بها المقام، حسب بعض المصادر، في إقامات فاخرة لشخصيات بارزة.. اختفى الباب وعوضته عيدان وألواح خشبية حولته إلى مدخل زريبة أو كوخ ينتمي إلى عصر ما قبل التاريخ، ولأن القصدير سلعة رائجة في المغرب فقد استوطنت براكة راقية قلب الزاوية بصحن استقبال رقمي وجرس كهربائي حديث وضع على البوابة لإعفاء الخشب العتيق والمزلاجين الأثريين من نرفزة زوار قاطني البراكة الذين حاولنا عبثا معرفة طبيعتهم أو الجهة التي منحتهم حق مزاحمة النساك في زاويتهم. والواقع أن بقايا القبور الموزعة خلف الزاوية والتي بدأت شواهدها تختفي وسط الأزبال والنبات خلق لدى السلاويين التباسا حول ما إذا كان بالمكان ولي لضريح مهجور يضاف إلى قائمة الأولياء الذين جعلوا من سلا في أيام عزها مستقرا لهم أم إنها معارة لليهود، والمسؤولية في هذا الالتباس والجهل تتحملها وزارة الثقافة ومسؤولي المدينة الذين انتهى فهمهم لحماية المآثر التاريخية عند تجميل السور بمسحوق من التراب رفعا للحرج، كما أشار إلى ذلك أحد الغيورين على تراث المدينة والذي أكد بنبرة حزينة أن من لا يحترم ماضيه لا يمكنه أن يتصالح مع حاضره أو يصنعه وأن التهميش الذي يطال زاوية النساك هو عنوان واحد في فهرس طويل من التقصير في حق مدينة سلا عموما، ففي الوقت الذي نجد فيه دولا تتعامل مع مآثرها التاريخية ككنز ثمين تتوارثه الأجيال فإننا في المغرب نتعامل مع الأمر كعبء ثقيل، والمطلوب حاليا هو إنقاذ هذا التراث من الوضع المزري الذي يوجد عليه وحمايته من خطر الانهيار بفعل الأشغال القريبة منه والهادفة إلى تغيير قنوات الصرف الصحي. بالمكان، وجدنا بائع صيكوك يبيع بضاعته لأهالي المرضى النفسيين الذين تزدحم بهم مستعجلات الرازي، وبجوار عربته وقف بدوي عجوز بلحية بيضاء يغالب لهاثه وهو يتناول ملعقة تلو الأخرى بعد أن استنزفت قواه محاولة السيطرة على ابنه المصاب بخلل عقلي والذي انتابه الهياج مباشرة بعد نزوله من سيارة مرسيدس 207 تكلفت بنقله من قرية بعيدة ومنسية. الرجل ورغم أميته أدلى لنا بتصريح بليغ بعد أن كشفنا له عن طبيعة المعلمة التاريخية التي يقف بمحاذاتها: «شوف هادوك الناس اللي بناو هاذ الزاوية للضعفا كانوا كيفكرو فالناس لي محتاجين، أما اليوم موت ولا عيش شكون داها فيك، هاد الشي علاش هاد الزاوية مابقات عندها قيمة».