استقبلت إيطاليا يوم فاتح ماي في أجواء مكهربة نوعا ما، توحي بأن طبقتها الشغيلة، رغم كل المكتسبات الضخمة التي حققتها، مازالت فئة منها تعاني تهميشا واضحا وتغييبا لحقوقها الأساسية. هذا التهميش الذي أزهق أرواح عدد مهم من العمال الإيطاليين والأجانب أثناء تأديتهم لواجبهم المهني كان هو نفسه الذي حرم نسبة كبيرة من العمال المغاربة المهاجرين من أبسط حقوقهم خصوصا تلك المتعلقة بالوقاية من حوادث الشغل والتعويضات المتعلقة بها. الحكومة الإيطالية اليسارية التي ستودع «بلاتسو كيدجي» في الأيام القليلة القادمة، اضطرت تحت ضغط حوادث الشغل المتكررة التي أحرجتها نوعا ما إلى إحداث قوانين جديدة وصارمة لضمان سلامة العمال بالمواقع التي يعملون فيها، لكن هذه القوانين والإجراءات حسب النقابات العمالية الإيطالية تبقى غير كافية لتحسين ظروف العمل بإيطاليا في غياب أجور مناسبة تحمي العامل الإيطالي من غلاء المعيشة ومن التضخم الذي ضرب الاقتصاد والمجتمع الإيطاليين. صورة شاملة بدأت المراسيم الرسمية لتخليد عيد الشغل بإيطاليا باستقبال، بالعاصمة روما، خصه كل من رئيس الجمهورية الإيطالية جوريجو نابوليتانو ورئيس الوزراء رومانو برودي، لأسر الضحايا الإيطاليين الخمس الذين لقوا حتفهم حرقا في حادث شغل بمعمل تسين كروب بتورينو في بداية شهر ديسمبر الماضي. الذكرى لم تكن فقط مناسبة لمواساة وتعويض الأسر المتضررة من حادث تورينو، بل دعوة رسمية من رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء الإيطاليتين لتطبيق واحترام القوانين الجديدة الخاصة بضمان الوقاية للعمال وسلامتهم أثناء تأديتهم لواجباتهم المهنية، مع اتخاذ تدابير أخرى للرفع من الأجور. فنابوليتانو وبرودي، رغم قيامهما بهذه البادرة لتحسيس أرباب العمل والمؤسسات الإيطالية المعنية بضرورة وقاية العمال من الحوادث مع المطالبة بتعويضات أفضل للمتضررين منهم، إلا أنهما تلقيا انتقادات لاذعة من طرف بعض النقابات العمالية ومن بعض العمال لعدم استقبالهما أسر ضحايا آخرين لفظوا أنفاسهم في مواقع شغل لا توفر حتى أبسط شروط الوقاية من أخطار الحوادث، مؤكدين أن التفاتة نابوليتانو وبرودي تجاه مأساة العمال تدخل في إطار دعاية سياسية رخيصة لا غير. نفس الانتقادات عبرت عنها أسر ضحايا أجانب من بينهم حتى مغاربة فارقوا الحياة في أحداث شغل غامضة، حيث طالب بعضهم، إضافة إلى تعامل ديمقراطي مع العمال الأجانب، بتعويضات أكبر من تلك التي تسلموها. فإيطاليا التي تعيش على وقع الأزمات المتتالية منذ أكثر من خمس سنوات، تتربع على عرش الدول الأوربية التي لا يحترم أرباب العمل فيها شروط السلامة والوقاية للعمال، لهذا فقد أصدرت المؤسسات الأوربية المعنية مؤخرا عددا من التقارير تحذر فيها الحكومة الإيطالية من تراجع الحقوق المتعلقة بالعمال بإيطاليا وبخطر عدم التدخل العاجل لإيجاد حلول سريعة للأرقام المخيفة المتعلقة بحوادث الشغل التي تقع في إيطاليا. هذه الحملة الأوربية على إيطاليا من جهة وغضب الطبقة البروليتارية الإيطالية بعد حادث تورينو من جهة أخرى عجلا بإصدار قانون جديد يجرم أرباب العمل الذين لا يوفرون شروط الوقاية من حوادث الشغل ويكثف بالتالي من الدورات التفتيشية بأوراش العمل وبالمصانع والمعامل الإيطالية. فهذا القانون الذي صدر في الشهر الماضي بعد عمل مكثف وجاد قامت به الحكومة الإيطالية اليسارية، سيعرض كل رب عمل لم يحترم بنوده الثلاثمائة إلى السجن ما بين أربعة إلى ثمانية أشهر مع غرامات مالية تتراوح ما بين 5 إلى 15 ألف يورو، وفي حالة عدم تطبيقه لهذه الشروط في معمل أو موقع عمل يستعمل فيه مواد خطرة وقابلة للاحتراق فإن مدة الحبس تبدأ من 6 أشهر إلى السنة مع غرامة مالية تفوق 20 ألف يورو. أما إذا لقي أحد العمال حتفهم وثبت أن مشغله لم يفور له شروط الوقاية من الحوادث، فإن هذا الأخير يلقى عقوبة حبس تفوق السنتين مع غرامة مالية تتراوح ما بين 500 ألف ومليون يورو، إضافة إلى حذف جميع الرخص المهنية منه لمزاولة أي نشاط صناعي أو تجاري. القانون لقي ترحيبا كبيرا من طرف العمال ونقاباتهم، لكنه ووجه بانتقادات أرباب العمل واتحادات الصناعة بإيطاليا التي اعتبرته تضييقا على رجال الصناعة والأعمال ومزيدا من التجميد لسوق الشغل بإيطاليا الذي يعيش أزمة خانقة منذ سنوات. استغلال المهاجرين قبل سنتين، قمت بعمل صحفي لجريدة إيطالية حول أوضاع المهاجرين السريين بجهة البييمونتي، اضطررت معه إلى العمل يوما كاملا بمصنع حنفيات بنواحي مدينة بورغومانيرو (80 كلم شمال غرب ميلانو)، فقد علمت من مهاجرة مغربية في العشرينات من عمرها تقيم بمدينة بورغومانيورو بشكل غير قانوني، عن قيام هذا المصنع باستغلال عدد مهم من المهاجرين غير الشرعيين، لجني أرباح مهمة من ورائهم. طلبت منها هاتف المسؤول عن المعمل الصغير المتواجد في منطقة زراعية، الذي تظاهرت وأنا أتحدث معه عبر الهاتف أنني مهاجر مغربي دون رخصة الإقامة وأنني محتاج للعمل بأي ثمن، حدد لي موعدا بعد أسبوع، ليوافق مباشرة على ضمي إلى فريق المهاجرين غير القانونيين الذين كانوا يعملون بشركته بمجرد رؤيته لذقني الذي تركته دون حلاقة ولملابسي التي اخترتها بعناية لهذه المهمة. كان المصنع يضم 10 عمال إيطاليين يعملون بشكل قانوني وخمسة (مغربيتان وألبانية وروماني ورومانية) لا يتوفرون على رخص الإقامة. اقترب مني المسؤول وتحدث معي بإيطالية متأنية ليشرح لي طبيعة عملي قائلا: «ستقوم مثل الآخرين بتركيب قطع هذه الحنفيات قبل أن تضعها في هذه العلبة بعناية وإن عملت 10 ساعات فأجرك سيكون 20 يورو «، أي أنني إن عملت شهرا كاملا فإنني لن أتعدى 600 يورو حتى ولو عملت يوم السبت ووصلت ساعات عملي إلى أكثر من 14 ساعة يوميا. كان العمل شاقا ورغم ذلك كانت الابتسامة لا تفارق محيى المغربية سعاد وصديقتها مريم، فقد كانتا تعملان بجد ولا تتوقفان إلا نصف ساعة فقط لتناول وجبة الغداء، رغم أنهما كانتا تقضيان أكثر من 12 ساعة يوميا في العمل. أما أبناء المعسكر الشرقي، المتمثلون في مهاجري ألبانيا ورومانيا، فكانت وجوههم قاسية ويعملون بجد دون أن يطلقوا العنان للحوار مع أي أحد إلا بعض الكلمات بالألبانية والرومانية التي كنت أسمعها من حين لآخر وكانت تدور بينهم. كان يظهر بشكل كبير التمييز بين العامل الإيطالي والأجنبي وغياب الديمقراطية داخل المقاولة الإيطالية، من خلال تصرفات العمال الإيطاليين الذين كانوا يعملون بشكل متأن مع التوقف من حين لآخر لشرب القهوة التي أدمنوا عليها. لم أجد من حل إلا الحديث مع المغربيتين وأكثر عليهما من أسئلتي حول عملهما بهذه الشركة وحول أجرهما لمعرفة تفاصيل أكثر عن استغلال المهاجرين السريين. فما كان من سعاد التي كانت تعرف تفاصيل مهمتي وتعرف أنها ستغادر هذه الشركة تجاه عمل أفضل بمدينة ميلانو، إلا أن قالت: «الطاليان يستغلون كل شيء ويعرفون كيف يلعبون على القانون، فهم رغم حاجتهم إلينا يؤدون أجورا زهيدة مع نظرة احتقار وعنصرية تجاهنا، عندما يستغلونك أفضل استغلال ولا حاجة لهم بك فهم يزيلون القناع ليطلبوا منك وبكل سهولة الرحيل دون أن يقدموا لك حتى كلمة شكر... و»، توقفت سعاد عن الكلام، حتى لا يصرخ في وجهها المسؤول عن المصنع الذي كانت ملامحه ونظراته قاسية وهو يمر من أمامنا وكأنها تقول لنا كفى من الحديث بلغتكم التي لا أفهمها وتزعجني وتلهيكم عن العمل، لتستمر في الكلام بعد مغادرته قائلة: «الحاجة هي التي جعلتني أنا وصديقتي وهؤلاء المساكين نشتغل في هذه الظروف، فجميع الشركات ترفض تشغلينا بدون رخص الإقامة لنجد الفرصة في مثل هذا العمل حتى نضمن لقمة عيشنا إلى أن يجعل الله لنا مخرجا». في انتظار التعويض هموم سعاد ومريم ومهاجرين سريين آخرين لم تكن نفس الهموم التي يعيشها رضوان، 37 سنة، الذي تعرض قبل أربع سنوات إلى حادث بالمصنع الذي كان يعمل فيه تسبب في كسر ركبته اليمنى، مما اضطره إلى رفع دعوى قضائية ضد مشغله دون أن يتمكن من الحصول منه حتى الآن على فلس واحد. فمشغله يعلم جيدا أن القضاء الإيطالي بطيء جدا في مساطيره ويعلم بالتالي أن له القدرة على شراء ذمة محامي الضحية المغربي وحتى ذمم بعض المسؤولين النقابيين، لهذا فهو مطمئن على وضعه، رغم أن المغربي رضوان لا يكل ولا يمل ويواصل متابعته لمشغله الإيطالي، المشكل نفسه تعرض له مواطنه أحمد 35 سنة الذي مازال هو الآخر ينتظر حكم المحكمة في قضيته بخصوص تآكل أحد عظام رسغ اليد اليمنى التي كان يستعملها وبشكل ميكانيكي في وضع أحد القضبان الحديدية داخل آلة لصناعة هياكل المظلات، كان يتوقف مرات ومرات عن العمل بسبب هذه الآلام التي كان يشعر بها، لكن عوض أن يتفهم رب العمل مشاكل أحمد الصحية ويجد حلا ملائما لها مع تعويض مناسب عن سنوات التضحيات والكفاح، قام بإجباره على ترك العمل دون سبب مقنع، مما جعل أحمد يلجأ إلى القضاء ليقول كلمته الأخيرة في الأمر، لكن هذا الأخير ولنفس الأسباب البيروقراطية المذكورة مازال لم يفصل بعد في الموضوع.