باولا أو فتاة الجبل، بهذا الاسم كانت تُعرف نهاد حداد قبل أن تحمل اسم فيروز. ولعل فنانة بلد الأرز، وهي تنتقل، في البداية، من منشدة في جوقة المدرسة التي أنشأها مدرس الموسيقى سليم فلفل إلى منشدة في كورس الإذاعة اللبنانية، كانت تستسلم لقدر فني ضرب لها موعدا مبكرا مع العبقرية عندما وضع في طريقها فنانا اسمه حليم الرومي، الذي أعطاها اسمها الفني المستعار، كما أعطاها حظوة الاستفادة من إمكانيات الملحن الصاعد عاصي الرحباني، الفنان الذي كان يبحث، في ذلك الوقت، من خمسينات القرن الماضي، عن خامة صوتية ملائكية تفجر طاقاته اللحنية لِينحت منها أجمل اللآلئ. اللقاء بالأخوين، عاصي ومنصور الرحباني، جعل اسم فيروز يتحول بالتدريج إلى أسطورة، تبحث باستمرار عن نسوغ فنية تتغذى عليها. كبرت الأسطورة، مع الوقت، وفاضت عن ذلك الجسد النحيف، المرهف الذي حملها بإيمان وخجل. تزوجت فيروز بعاصي وأعطت لصوتها فرصة الصعود من أعماق الريف ليغني عبر المواويل والموشحات والأهازيج والأزجال والقصائد لواعجَ الحب، وصفاء الصلاة، ولوعة الشعراء، وغبطة المزارعين، وغربة الأوطان، وحزن المدن، وصمت البيوت المهجورة، ويقين الطيور العائدة، وسكون الليل وسحر الجسور الغارقة في الأنهار. غنتْ فيروز كل هذه الصور وغيرها من الحياة الريفية والمدينية التي تدفقت من حنجرتها كالعسل، فأتاحت لشعر وألحان الأخوين الرحباني أن تمتزج بالهواء، وأن تقيم في تلك المناطق النائية المتاخمة للسحاب، حيث تتلألأ نجوم الفن، وتندلع خيوط من فضة اللحن السمفوني. وبنفس الحركة السحرية، أتاحت فيروز لقلوب الناس، وهي تنصت لصلاتها الغنائية، بُلوغَ تلك النقطة التي يتلاشى عندها الانتماء الاجتماعي، لصالح وحدة إنسانية مشدودة لعناصر الحياة الأولى التي تَخلَّق منها الكون، قبل أن تنفذ من شقوقها، مع ظهور العمران ومشاعر الغيرة والحسد، دودة الصراع. ومثلما أتاحت لنا فيروز فرصة التلاشي علمتنا أيضا قيمة الانتماء. وغناء الأوطان الجريحة الذي يصعد من قلبها رقراقا، يَدلُّنا على عودة ظَلَّ نَشيدُها الغالي يهجس بها، بالرغم من الحزن والدموع وغبار المعارك الصغيرة التي تورط فيها الإخوة. إن لحظة الألم التي تعتصر أغاني كثيرة في ربيرطوارها الفني الشجي، قادمة، في الواقع، من تلك اللوعة المؤمنة بقيمة الانسان وقدرته على بناء الجسور وترميم الحياة المؤدية للغد. ودون السقوط في شكل فني تبشيري، ظلَّ غناء فيروز عامرا بالوعد المنبثق من غموض الفن، ومن سحر الصوت وترجيعات اللحن الضارب الغور في أرض الجذور. كانت فيروز، وهي تستسلم لمشارط التجميل، في لحظة من حياتها، ترغب في منح إطلالتها الفنية هيبة التماثيل المنحوتة برهافة نادرة. وما كان لعاصي سوى الاستسلام، بوجل، لرغبة الفنانة، التي كانت بدورها تستسلم لقدر شخصي كان، بحق، أكبر من أي قرار. ولذلك ظلت فيروز منزهة عن كل توظيف سياسي، طبقي أو طائفي، لأن صوتها كان يعرف كيف يعلو فوق الأطياف ونزوات الحكام. كان يعرف كيف يأتي من مكان بعيد، ليخترق قلوب الملوك والناس البسطاء على حد سواء. مات عاصي واستمرت الأسطورة تبحث لقلبها عن ألحان، فغنت لفيلمون وهبي ومحمد عبد الوهاب وزكي ناصيف ورياض السنباطي، لكن صغيرها زياد الرحباني، عرف أكثر كيف يمنح صوت فيروز ما يُجدد شبابه، بالرغم من كل تلك السنوات الطويلة التي ركض فيها وراء أشجى الألحان وأعلاها مقاما. هكذا وضع زياد في أسطوانات مثل «معرفتي فيك» و«كيفك انت» ما جدد شباب فيروز، قبل أن يعرج، في نزعة أوديبية مغامرة ، نحو الزج بذلك الصوت الملائكي في «فانتازيات» مدينية خاصة تمزج الجد باللعب، والألحان الموقعة بالكلام النثري، الذي يدمج الاستعداد وبروفات التمرين في سياق الغناء والفن. إن تلوث البيئة الموسيقية من حولنا، يجعلنا، حقيقة، نجد في فن فيروز ملاذا يعلمنا الحلم والأمل. فتحية لفتاة الجبل، من أعماق القرن المقبل.