«يكفي أن تكونَ هناك، وحدكَ، كي تصير قبيلة»، كتبَ الشاعر محمود درويش في «الجدارية» .. تذكرتُ هذا المقطع، قبل يومين، وأنا أتطلع إلى الشاعر أحمد بلحاج آيت وارهام، وهو جالسٌ إلى فنجانه وكُتبه، داخل «مقهى فرنسا»، بساحة جامع الفنا. كانتْ صُدفة لقاء آخر ب«شاعر مراكش». عناقٌ ودعوة للجلوس إلى طاولته. كأسُ شاي وأسئلة متبادلة عن الحال والأحوال وعن معارفَ مُشتركين وإخبارٌ بصدور كتاب «كالنهر يصعد في الأزرق»، شاركتُ فيه، إلى جانب مجموعة من الباحثين، بنص «زمن الغربة» و«حانة الروح»... وبينهما سبعة آفاق للجسد الحزين»، وهو كتاب ضَمّ مجموعة من النصوص والشهادات ألقِي معظمها، قبل سنة، بمناسبة اليوم العالمي للشعر، تكريماً لهذا الشاعر الأصيل. لآيت وارهام حضورٌ جميل. مثقفٌ باذخ، صافي الكلام والرأي، «في يديه لفافة من نور، يُدخنها بابتسامةٍ تمتطي صهوة كل الفظائع بشموخ ملحمي، حيث يردم في بئر الرهانات كل الأصفاد والمعاناة، متذرعاً بالتخييل الشعري، والتشكيل اللغوي والتنوع الإيقاعي، لصنع مجرة خاصة به، يملك وحده مفاتيحها الغائرة في الوجدان»، على رأي نجاة الزباير. شاعرٌ إنْ سمع شعراً ازداد عمره. قلبُه فَوارة عطر. قال لي في يوم تكريمه «أنا نكرة ... حتى أضعَ بصمة»، قبل أن يُسدي نصيحته .. «إياكم أن تُعادوا شاعراً». دفعة واحدة، طوّح بنا حديث عن «تدني القراءة» و«هجمة كتب الطبخ» و«وظيفة النقد» و«الدور المطلوب من الإعلام الرسمي لنقل ونشر الخبر الثقافي» و«مشاكل توزيع الكتاب»، وحاجتنا المستمرة إلى «الصرامة النقدية» بصدد ما يُكتب. تساءل آيت وارهام، فقال: «تابعنا قبل أيام برامج وثائقية ونقاشات تناولت حقوق الفنان وقرصنة الأعمال الفنية، فأين حقوق الكاتب ؟»، منتقداً «تعليب الثقافة المغربية»، التي يُراد تقديمها كوجبات سريعة بتوجيه «ساذج»، تحت ذريعة مسايرة متطلبات العولمة، ورأى أن الكتاب الورقي لا يمكن أن يموت رغم ترويج البعض للكتاب الإلكتروني، ف«خيالنا يندفع، حين نغوص بين دفتي كتاب ورقي»، عكس البرودة التي تواجهنا بها شاشة الحاسوب. هذه الإشارة الإلكترونية، كانت مناسبة لكي أساله عن درجة تأثر الممارسة الشعرية بسهولة النشر الإلكتروني وخفة فأرة الحاسوب، كتابة ونسخاً وسلخاً وقراءة، فأجاب بأن «الممارسة الشعرية تأثرت كثيراً»، وأن «أشياء كثيرة تكسّرت»، جعلت اللغة «ملساء»، «تتشابه فيها الألفاظ والكلمات» عندَ مجموعة من الشعراء. وحذر آيت وارهام منْ تشتت كثير من الشعراء على ممارسات إبداعية أخرى، كالقصة والرواية، مثلاً، ورَأى أن «تشتيت الموهبة على ممارسات عديدة من شأنه أن يقتل الشاعر»، وأعطى النموذج بالشاعرين عبد الكريم الطبال ومحمد السرغيني، حيث «الأول يصارع الآخرين كشاعر رائد يكتب صوراً حديثة بلغة متميزة، أما الثاني فشاعر كبير لم يُعطه حقه في المغرب، رغم أن قامته من قامة أدونيس». وإمعاناً في تواضعه الجميل، تابع، قائلاً: «السرغيني أستاذي، وإلى اليوم، لا أكتب الإهداء على الكتب التي أهديها إليه، اعترافاً مني بقيمته، وقد قلتُ له في آخر لقاء جمعنا «كلامي في الثرى وكلامك في الثريا»، ثم خاطبتُ الحضور، قائلاً: «هذا شاعر يتحداكم بشبابه» .. شاعرٌ نشر أخيراً ديواناً بعنوان «وصايا مامُوتٍ لا ينقرض»». وفي علاقة بوصايا السرغيني، سألتُ آيت وارهام «هل من وصية تقدمها لشعراء «الهوتمايل» و«الألفية الثالثة»، فكان رده «لا وصايا عندي لأقدمها» .. «فنصائح، إذن ؟»، ألححتُ عليه، فقال، بعد تردد: «نصيحتي، إذا كتب أحدهم أن ينظر هل كتابته تتكلم بلغة خاصة وسط الكتابات الأخرى أم لا. علينا أن نؤمن بأن الشعر هو أن تصنع أسطورتك الخاصة في قصيدتك». أتْركُ «شاعر مراكش» جالساً إلى فنجانه وكُتبه في هيبة المتصوف. شاعرٌ أصيل، يصر على مواصلة مسيرته الإبداعية تأكيداً لإقامة حقيقية على الأرض .. «أرض الوطن، أرض الذاكرة، أرض القيم المشتركة العليا، أرض اللغة بما هي مَكْمَنُ وعْيه، ومنطقة أحاسيسه وإنسانيته، وشرفته المطلة على شساعة الكون». أتْرُك الشاعر، وأنا أقرأ عنه من ديوان آخر لشاعِر آخر: «سأصير يوماً ما أريدُ. سأصير يوماً فكرة. سأصيرُ يوماً طائراً، وأسُل من عدمي وجودي. كُلما احترقَ الجناحان اقتربتُ من الحقيقة».