استقبل السجن المركزي للقنيطرة سنة 2006 أزيد من 26000 زيارة وما يقارب هذا الرقم من «قفف المؤونة»، واستفاد 20 من نزلائه من حق الخلوة الشرعية، واستقبل، إلى جانب ذلك، عددا من الوافدين الجدد للإقامة في زنازينه وانتظار موت حكم به قضاء المملكة، لكنه عرف هذه السنة مغادرة بعض من «نخبة» نزلائه، دون علم إدارته، في أنفاق حفرت تحت الأرض أو في قلب المؤسسات المفترض فيها السهر على حمايتها. هذا بعض من تاريخ وواقع سجن أسس ليظل «مركزيا». «واش نتا بغيتي تصيفطني للمركزي؟»، جملة يكاد لا يرددها إلا أبناء القنيطرة، هذه المدينة الآخذة في التوسع على مقربة من عاصمة المملكة. سبب هذا التساؤل المتوجس يعود إلى معرفتهم بما تخفيه الأسوار البيضاء وما يعلوها من سياج حديدي من زنازين الاعتقال الطويل والانتظار في ممرات الموت. على الضفة الجنوبية لنهر سبو الذي يخترق المدينة، يقع هذا السجن الذي يكاد يكون الأقدم من نوعه في المغرب. حيث تعود سنوات تشييد بنايته إلى عقود الحماية ووصول فلول الجيش الأمريكي لإقامة القاعدة العسكرية الشهيرة. ومازال إلى اليوم هذا المعتقل يتكئ على القاعدة الجوية التي ورثت موقع القاعدة الأمريكية، والمطلة بدورها على المحيط الأطلسي. أرقام وقضبان تغيب عن النسخة الأخيرة من النشرة الإحصائية لمديرية إدارة السجون وإعادة الإدماج، والخاصة بسنة 2006، المعطيات الخاصة بالسجن المركزي للقنيطرة بخصوص المعتقلين الوافدين سنة 2006 وتغيب نفس المعطيات بخصوص تصنيف المعتقلين الوافدين حسب نوعية العقوبات. لكن صفحات أخرى، تفيد بأن هذه المؤسسة تضم 499 من النزلاء المنحدرين من مدن كبرى و159 من مدن متوسطة و420 من الوسط القروي، أي ما مجموعه 1078، ليصنف بذلك ضمن العشرة سجون الأولى في المملكة من حيث عدد النزلاء. أبناء المدينة يهابون ولوج أسوار «المركزي» أيضا، لأنهم يعرفون أن «الحبس» الخاص بهم هو السجن المحلي للمدينة، ووحدهم مرتكبو الجرائم الكبرى، والتي تترتب عليها عقوبة تفوق 10 سنوات، يمكثون فيه، ويضم أزيد من ثمانمائة من المحكومين بما بين 10 و30 سنة. ويقبع في زنازينه غالبية المحكومين بالمؤبد والإعدام من طرف محاكم المملكة. لكن مسحة جديدة جاءت لتعلو صورة هذا السجن في مخيلة القنيطريين منذ أسبوع، فقد استيقظوا على نفق تحت أرضي، يوصل إلى بيت المدير الواقع جهة القاعدة الجوية، ومنه استطاع تسعة فارين ركوب سيارة بيضاء أو سوداء، لا يهم، واستعادة الحرية المفقودة، أسابيع فقط بعد حادث أكثر هوليودية، فر على إثره محمد الوزاني، الملقب ب«النيني» المحكوم في قضية الاتجار الدولي في المخدرات، من الزنزانة المفترضة داخل «المركزي» إلى الفردوس الإسباني مباشرة. أصبح السجن المركزي للقنيطرة في قلب الأحداث الساخنة للسنوات الماضية، أو عاد بالأحرى إلى الواجهة بفعل موجة الأعمال الإرهابية وتناسل الشبكات النائمة والمفترضة. وبعد الأحكام المتوالية التي صدرت ضد معتقلي تفجيرات الدارالبيضاء، استعاد هذا المعتقل «مكانته» كمأوى لمعتقلين من طينة خاصة، أطلق عليهم سجناء السلفية الجهادية. خبايا السجن وانخرطت المؤسسة في مشاكل شملت كل السجون المغربية، برأي محمد ضريف، الذي أكد ل«المساء» أن تجاوزات في التعامل مع المعتقلين السلفيين تم تسجيلها، فيما كان بعض معتقلي قضايا المخدرات يحظون بمعاملة تمييزية، على رأسهم الهارب الأخير المعروف ب«النيني»، وهو أمر وصل صداه إلى موظفي المؤسسات السجنية أنفسهم، برأي ضريف، «عبر رسائل ينددون فيها بممارسات الإدارة ضد السلفيين ورفضهم تنفيذ بعض الأوامر في حقهم. فنظرا لتكوينهم الهش وثقافة بعضهم المتواضعة، يسهل التأثير عليهم، واستقطابهم ليس تنظيميا، بل فقط قصد الاستفادة من بعض المعلومات». اليوم، وإن كان البعض يقول بدفن الماضي والمصالحة معه، ورغم أن «المركزي» بات يؤوي مواطنين «عاديين»، بينهم مائتان وسبعون من النزلاء المحترفين للفلاحة، ومائة وأربعون حرفيا، فيما أزيد من مائتين وخمسين يمارسون مهنا حرة، بالإضافة إلى قرابة مائة من الأطر المتوسطة ومثلها من العاطلين، فإنه سجل سنة 2006 لوحدها 85 حالة اعتداء وممارسة للعنف، وضبطت أشياء محظورة 97 مرة والمخدرات 19 مرة، وسجلت ثاني نسبة إيداع بزنزانة التأديب بعد السجن الفلاحي بالعدير، بما مجموعه 175 حالة، فيما تم تبليغ النيابة العامة بالمخالفات داخل المؤسسة 249 مرة. كما عرف السجن تسجيل 14 حالة إهانة من طرف السجناء في حق الموظفين، و9 حالات عنف ضدهم، وتم إشعار النيابة العامة عشر مرات بتلك الاعتداءات، فيما طالت حالات اعتداء السجناء على بعضهم 11 سجينا. وبعد التجاوزات التي اعترفت بها الدولة على أعلى مستويات سلطاتها في حق المعتقلين الإسلاميين، وانخراطهم في سلسلة احتجاجات وإضرابات عن الطعام، ودخولهم أيضا في محاولات تفاوضية، استعاد السجن المركزي للقنيطرة صفته كمحتضن للمعتقلين السياسيين، بعد عقود آوت فيها زنازين سجن القنيطرة المركزي أشهر المعتقلين السياسيين المغاربة خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أثناء ما عرف ب«سنوات الرصاص». ويكفي أن نراجع سيرة الراحل إدريس بنزكري لنجد سواد «المركزي» مخضبا لأزيد من 17 سنة من حياته. برودة الزنازين «كان هذا السجن، خلال فترة الاعتقال، يتشكل من أربعة أحياء»، يقول أحد المعتقلين السياسيين السابقين في هذا السجن، قبل أن يضيف أن الحيين «أ» و«ب» كانا مخصصين في السابق لمعتقلي الرأي، حيث يقبعون في زنازين انفرادية وبعيدة عن معتقلي الحق العام، مخافة «انتقال العدوى». ويتميز هذان الحيان بقربهما من الإدارة وقاعة الزيارات. هذه الأخيرة يقسمها ممر طويل إلى شطرين، يحده سياجان حديديان تفصل بينهما مسافة متر واحد تقريبا، يشغلها أحد الحراس أثناء الزيارات بالذهاب والمجيء بين المعتقلين وذويهم مستمعا إلى حواراتهم. وفي لحظة اشتعال لهيب المواجهة مستهل عقد السبعينيات، احتضن الحيان «أ» و«ب» نشطاء اليسار الراديكالي من رفاق أبراهام السرفاتي، فيما خصص الحي «د» لمعتقلي أحداث مولاي بوعزة، أما الحي «ج» فظل على الدوام ممرا للموت، مخصصا للمحكومين بالإعدام. يتوفر السجن المركزي للقنيطرة على ثلاثة أطباء للطب العام وطبيب نفساني واحد وطبيب أسنان واحد، إضافة إلى ممرضين وثلاثة ممرضين مساعدين، فيما يتعاقد مع أطباء أخصائيين في أمراض الجهاز الهضمي والقلب والشرايين والأمراض الصدرية. ومجموع الأسرة الصحية يبلغ 47. كما احتل المرتبة الأولى وطنيا من حيث عدد الناجحين في امتحان الباكالوريا كمرشحين أحرار برسم الموسم الدراسي 2005-2006، بما مجموعه 18 سجينا، فيما يتوزع بضعة آخرون على جامعات المملكة لمتابعة الدراسات العليا. الممكن والمستحيل معتقل سياسي سابق، في تصريحاته ل«المساء»، يصف أمر الفرار من السجن المركزي ب«شبه المستحيل»، فأرضية المعتقل شديدة الصلابة يصعب حفرها بالفأس فبالأحرى ملعقة. والوصول إلى الباب الخارجي يتطلب عبور أربعة أبواب محروسة، والأسوار تراقبها أربعة «أبراج» مجهزة بالأضواء الكاشفة وأجهزة الاتصال اللاسلكي بين من يشغلها من حراس مسلحين. لكن النزيل السابق يعود إلى التساؤل عما إذا كانت الغرف الخاصة بمعتقلي الحق العام مازالت مكدسة بأعداد تفوق المائة في الغرفة الواحدة، وينامون فوق أغطية يفترشونها مباشرة على الأرض، ويخضعون لسلطة «الشاف»، ذلك السجين المحظوظ الذي يوزع الأكل ويتجول بين الأحياء ومرافق السجن متمتعا برضا الإدارة. هذه الأخيرة، تعرف، منذ أنشئ هذا المعتقل كسجن مركزي في أربعينيات القرن الماضي، أن كل من يحال عليه هو «مجرم خطير» يتطلب تعاملا حذرا، وحراسة مشددة، بل إن بعضهم يأتي إليه لانتظار الموت الذي قد يزوره في أية لحظة. سجلت 2006 فرار 20 سجينا من أيدي موظفي المؤسسات السجنية، فيما فر سبعة من يد القوة العمومية، وواحد من داخل سجن ذي نظام شبه مفتوح. وسجن القنيطرة المركزي عرف لوحده، وفي ظرف أسابيع، فرار عشرة ممن يعدون أخطر معتقليه. لكن الباحث محمد ظريف يعتبر أن الأهم ليس عمليات الفرار في حد ذاتها، بل ما تخفيه وراءها. «أنا لا أستبعد أن نواجه تنظيما قويا خارج السجن، لأن جزءا مهما من هذه العملية الكبيرة تم التخطيط له من خارج السجن. والمشكل لا يطرح على مستوى الفرار بحد ذاته، بل في الجهة التي أمنت الاختفاء والتواري»، يقول ضريف.