هناك شيء غريب تماما وغير مفهوم على الإطلاق يحصل هذه الأيام في قطاع الإعلام العمومي، المسموع منه بصفة خاصة. ففي الوقت الذي ظهرت فيه محطات خاصة يفترض فيها أن تضيف شيئا جديدا إلى المستمع وأن تدخل في منافسة حقيقية مع المحطات العمومية (المركزية والجهوية) التي نجح معظمها، عبر تاريخه، في ربط علاقة متميزة بالمستمع المحلي وتعزيز ارتباطه بتاريخه ومحيطه وثقافته... في هذا الوقت بالذات، وبدل تعزيز إمكانات الإعلام العمومي المسموع ماديا وبشريا، وجعله أداة فعلية لضمان التنوع في العرض والتعددية في الآراء، شرع بعض الإداريين المسؤولين بالإذاعة في تجريد هذا الإعلام من كل مقومات المنافسة، بل ومن كل مقومات الوجود أصلا، وكأن الأمر يتعلق بتطبيق «مخطط سري» يرمي إلى القضاء على الإذاعة العمومية ككل ومحوها من الوجود لكي يخلو الجو للإذاعات الخاصة وحدها تصول وتجول في الساحة وتشكّل وجدان المغاربة بطرقها الخاصة المتعارضة، عموما، مع المتطلبات الثقافية والوجدانية لبلاد سائرة على درب النمو والتنمية. فبعد التوقف عن أداء أجور المتعاقدين لمدة تجاوزت السنة (إذاعة طنجة كمثال)، وبعد رفض أداء تعويضات التنقل بالنسبة إليهم وإلزامهم بدفع مصاريف التنقل لتغطية التظاهرات الثقافية والفنية الكبرى من جيوبهم، وغير ذلك من «الإشارات» الملتوية، جاء الدور اليوم مباشرة على إذاعة الدارالبيضاء الجهوية التي أصدر أحد الإداريين المركزيين قرار إعدام في حقها تم تبليغه إلى العاملين فيها على خطوات، تمثلت أولاها في إيقاف بعض البرامج (بدعوى أنها غير مفيدة) مثل برنامج «ذاكرة الدارالبيضاء» (نعم، فالسيد الإداري ومن معه يريدون قتل ذاكرتنا)، وتمثلت ثانيتها في توقيف كل المتعاقدين مع الإذاعة ابتداء من متم شهر مارس الماضي، وعلى رأسهم المذيعون المقتدرون آسية فردوس وأحمد بنسنة ومحمد باعمران... وذلك دون توفير بديل عملي (أو حتى على مستوى التصور) لملء الفراغ الكبير الذي سيخلفه الرحيل المفاجئ لهذه المجموعة (يضاف إليه تقاعد صوت إذاعي بارز آخر بداية هذا العام هو أنور حكيم)؛ ولا شك أن هناك خطوات أخرى قادمة في الطريق ستنتهي بإغلاق أبواب هذه الإذاعة (إضافة إلى إذاعات جهوية أخرى) وتفويت فضائنا المسموع بأكمله إلى شركات خاصة تصول فيه وتجول. الغريب في أمر هذه القرارات المفاجئة وغير المدروسة أنها تأتي في وقت تعيش الإذاعة المغربية فيه بغير مدير، وذلك منذ تعيين مديرتها السابقة السيدة لطيفة أخرباش في منصب وزاري، مما يطرح التساؤل عن الجهة، أو الجهات، التي تتحمل مسؤوليتها: إذا كانت من وحي خيال موظف مركزي (مكلف بالموارد المالية والبشرية، ولا يفهم، حتما، في شؤون الإذاعة والإعلام) فإن هذا يكشف عن درجة التسيب التي وصلها إعلامنا العمومي المسموع الذي شكل في الماضي لحظة مضيئة في مشهدنا السمعي البصري -بالمقارنة مع التلفزيون- فتحول اليوم إلى مجال للتخبط والفوضى وانعدام الاستراتيجية وخطط العمل؛ أما إذا كان الموظف المركزي مجرد منفذ لتعليمات جاءته من رؤسائه، فإن الأمر يصبح أخطر، لأنه يعني أن الأمر لا يتعلق بنزوات شخصية بقدرما يتعلق بتصور عام يروم إقبار الإذاعة العمومية؛ وفي الحالين معا فإن هذا التوجه للقضاء على الإذاعة العمومية يستلزم نقاشا عموميا في المنابر الصحافية وتحت قبة البرلمان، لأن الأمر يتعلق بقطاع يتم تمويله من أموال دافعي الضرائب، ولا يحق لمستخدم أو موظف أن يتدخل في تحديد مصيره بناء على تهيؤاته الخاصة، التي تفتقر إلى الحدود الدنيا من الخبرة المهنية ومن المعرفة بتطور العالم وبأحوال العباد والبلاد. إن الإذاعات الجهوية لعبت، وتلعب، دورا أساسيا في تنمية حس المواطنة وتعزيز الارتباط بتاريخ وثقافة وهوية بلد اسمه المغرب، سواء عن طريق برامجها أو عن طريق اختياراتها الموسيقية (التي لا علاقة لها باختيارات المحطات الخاصة التي يهللون لها ربما أكثر من اللازم) أو عن طريق متعاونيها (متعاقديها) الذين يشكلون عمادها والذين يمارسون عملهم عن عشق حقيقي للعمل الإذاعي؛ وحتى إن كان عملها في حاجة إلى تطوير فإن هذا لا ينبغي أن يكون باتجاه «الخط التحريري» للإذاعات الخاصة التي مازالت تحبو على كل المستويات، والتي قد يبدو عمل بعضها في الوقت الحالي مغريا وجديرا بالاحتذاء، إلا أنه يبقى مجرد «صرعة» سريعة الزوال لا يمكنها الصمود أمام إذاعات ذات تاريخ، لكن شريطة تعزيز هذه بإمكانات المنافسة وليس العمل من أجل إقصائها والحكم على أصواتها البارزة بالتهميش والنسيان.